تابعت، مثل كثير من المهتمين بالتطورات العسكرية في اليمن، مجريات العملية العسكرية الأخيرة الموسومة بـ"الرمح الذهبي"، التي نفذتها في أوائل هذا الشهر (يناير/كانون الثاني 2017)، وما تزال كذلك، وحدات من الجيش الوطني تتبع المنطقة العسكرية الرابعة، مسنودة بطيران وبحرية التحالف العربي، انطلاقا من باب المندب وحدود محافظة لحج جنوبا، باتجاه مدينة ذوباب الساحلية شمالا، وتحرك مماثل لوحدات أخرى في مناطق مختلفة بتعز، تمتد على شكل قوس متقطع يحيط بقوات الحوثيين المتمركزة في مناطق الساحل الغربي التابعة لتعز، وسط جلبة إعلامية كبيرة تدل على أهمية هذه المعركة، لا سيما أنها تدور في منطقة بحرية شديدة الحساسية في حسابات طرفي الحرب.
عادة ما تثير العمليات العسكرية، التي ينفذها الجيش الوطني الموالي للرئيس عبدربه منصور هادي، في المناطق الواقعة على حدود ما قبل مايو/آيار 1990، آراء متباينة تحاول بعضها تفسير ذلك انطلاقا من الهدف المعلن للحرب الدائرة منذ مارس/آذار 2015، وهو دحر الانقلاب الحوثي ومحو آثاره، فيما ترى خلاف ذلك آراء أخرى تهيمن عليها مخاوف النكوص عن الهدف الكبير إلى هدف فئوي لا يقل غدرا عن الانقلاب الذي يراد القضاء عليه، من خلال التمكين المرحلي لانفصال الجنوب عن الشمال، وأن ما تقوم به وحدات الجيش تلك، ليس سوى خطوة على طريق تجديد معالم الحدود التشطيرية لليمن، أما الواقفين على مسافة متساوية بين الرأيين، فيعتقدون أن ما يجري عملية صريحة لترسيم قسري لحدود أقاليم اليمن الاتحادي، الذي يسعى لتحقيقه الرئيس هادي وبدعم دولي وإقليمي، في إطار جديد يغيب فيه شبح الانفصال ومركزية الشمال المحتكر للسلطة.
الأهداف في سياق كاريزما الموقع
تحتل منطقة جنوبي البحر الأحمر مكانا أثيرا في أجندات القوى الكبرى والقوى الإقليمية الحليفة والمناوئة لها؛ نظرا لما تتمتع به من أهمية استراتيجية؛ عسكرية وتجارية، إقليمية وعالمية، مكنتها من الاضطلاع بأدوار بارزة في الصراعات الدولية والإقليمية، قديما وحديثا، استحوذ اليمن على جانب كبير منها، بوصفه الدولة الأبرز في المنطقة التي تتحكم- ولو شكليا وفق قدراتها المادية وما تمليه قواعد القانون الدولي- بمضيق باب المندب، عبر جزيرة ميّون(بريم) الواقعة على عتبته، والتي تعد "مفتاح باب البحر الأحمر"، وكذا بوصفه الدولة الثانية التي تقاسم المملكة السعودية النفوذ الأكبر على الضفة الشرقية لهذا البحر.
في سياق كاريزما هذا الموقع الذي تبوأ اليمن بموجبه "مكانا هاما في لعبة الشطرنج الدولية"، على حد وصف الكاتب والصحافي الأمريكي تيم لستر، ونظرا لما يمر به من اضطراب سياسي معقد يضعه على قدم المساواة مع النموذج الصومالي، الذي وضع منطقة جنوبي البحر الأحمر في دائرة الشواغل الدولية منذ مطلع تسعينيات القرن الماضي، فإنه يمكن تصور هذه العملية في سياق مهمة إيجاد منطقة عزل واسعة تحقق الأمن اللازم لمصالح القوى الكبرى وحلفائها في باب المندب والبحر الأحمر؛ حيث ستحقق منطقة العزل هذه، تراجعا مؤكدا لتهديدات الحوثيين التي تشكلها قدراتهم الصاروخية البحرية، في أمديتها والمناورة بها، خاصة أن البحر الأحمر يضيق عرضه تدريجيا كلما اقتُرب من باب المندب؛ وبذلك تكون السفن المبحرة في منتصفه واقعة في دائرة تهديد هذه الصواريخ.
قد يكون هذا التوجه هو الهدف الأول والرئيس للعملية، لكن ذلك لا يمنع وجود أهداف ثانوية تؤسس لأهداف رئيسة قادمة يمكن أن تحقق، مثلا، السيطرة على مدينة المخاء الساحلية، وتمكين وحدات الجيش الوطني المتمركزة في مناطق مختلفة من تعز، من استكمال طرد الحوثيين منها، واستثمار كل المكاسب المحققة من السيطرة على هذه المناطق لتطوير المعركة، بنقل المواجهة إلى محافظتي الحديدة وإب، على نحو يشبه قفزات الكنغر، وهي عملية مربحة لكنها طويلة، وطولها هذا يجعلها محفوفة بالمخاطر، لكن الملاحظ أن ملامح هذا التطوير تبدو غامضة، فوتيرة العملية القائمة وإمكانياتها وخطوط انتشار القوات فيها، لا ترشح- في الوقت القريب- هدف تجاوز مدينة المخاء.
|
إن التحول الملموس في قدرات الحوثيين الصاروخية الموجهة ضد السفن، التي مكنتهم من شن عدد من الهجمات على سفن حربية ومدينة في البحر الأحمر، هو ما يجعلنا نفسر دوافع وأهداف عملية الرمح الذهبي على هذا النحو، لا سيما أنها تأتي بعد أقل من ثلاثة أشهر من استهداف الحوثيين سفينة إماراتية ومدمرتين أميريكيتين بالقرب من باب المندب في أكتوبر/تشرين الأول 2016. كما لا ينبغي إغفال تصريحات قادة عسكريين وسياسيين إيرانيين حول طموح بلادهم في إنشاء قواعد بحرية عسكرية على الساحل اليمني في البحر الأحمر، وبالتالي فإن بقاء الحوثيين في المناطق القريبة من باب المندب، يجعل من هذا الطموح واقعا يتهدد الكثير من الأطراف المناوئة للوجود الإيراني، مثلما يتهدد أمن المنطقة برمتها، حين تصبح في غفلة بصيرة مسرحا لحرب مستقبلية كارثية النتائج.
المكاسب ومتطلبات تطوير العملية
يبدو الحديث مملا عن المكاسب المحققة من السيطرة على مناطق الساحل الواقعة بين باب المندب وذوباب، وما قد يتحقق في حال السيطرة على مدينة المخاء؛ ذلك أن هذا الموضوع أشبع قولا وكتابة من قبل الكثير، وبصورة لا تحتمل التكرار. وهنا يمكن الإحاطة بمسألة استثمار هذه المكاسب، الذي يمثل استثمارا للنصر؛ لأن النصر يعني في جوهره التشبث بالأرض المحررة وتطوير الهجوم وتعَقُب فلول الخصم، وعليه فإن التشبث بالأرض خلف منطقة ذوباب، سيكون مفروغا منه، ما دامت الخطوط الخلفية وأجنابها البحرية والبرية مؤمنة، ويتبقى تطوير العملية وهو القصد الذي ينبغي السعي لأجله سريعا قبل تمكن الحوثيين من إعادة ترتيب صفوفهم لشن هجوم مضاد أو التحصن المعوِّق لأي تقدم للجيش الوطني في المناطق التي انسحبوا إليها.
إن عملية تطوير المعركة لتشمل تحرير تعز والحديدة والاتجاه شمالا، تتطلب إمكانيات مادية وبشرية كبيرة، وإذا أردنا تقدير حجم هذه المعركة، يجب علينا الاستئناس بمعركة عدن. كيف خاضها الحوثيون والجيش الموالي لهم، رغم ضآلة الحاضنة الشعبية التي تتطلب مثل هذا الموقف، كما أن انكسارهم فيها لم يكن بسبب هذا العامل فحسب، بل بالإعداد المدروس للمعركة، والإمكانيات الكبيرة، ممثلا بالإسناد والدعم القتالي المتنوع من قبل وحدات مقاتلة وأمنية متخصصة إماراتية وسعودية.
|
من هذه اللمحة المقتضبة عن معركة تحرير عدن، يمكن القول إن تطوير المعركة إلى ما بعد ذوباب والمخاء، يجب تحشيد أنصار الشرعية فيها وإدماج القبائل في عملية التحرير والمشاركة السياسية التي تثمن أدوارهم، بما ينسي، إلى حدما، بعض آلام وجراحات الحرب التي أفقدتهم الكثير من أبنائهم وممتلكاتهم، كما لا ينبغي التعويل، في ذلك، على وحدات محدودة العدد والقدرة من المنطقة الرابعة والمقاومة الشعبية من محافظات الجنوب وتعز، بل يجب أن تنشط المنطقة العسكرية الخامسة في مشهد الأحداث، وتستكمل ما بدأته في منطقة ميدي.
أمام عملية التطوير هذه تقف معضلة الاصطفاف الخاطئ في جانب الشرعية وقواتها عموما، وهو اصطفاف يحاول إضفاء طابع غير مرغوب؛ كالمذهبية، والعصبوية الجهوية والحزبية. إن أول ما يجب البدء به جسر هذه الفجوات، ومن ثم الانتقال إلى تطوير المعركة. إلى ذلك يبدو الإعداد للمعركة عقبة أخرى؛ إذ يجب مراعاة مسألة الخبرة القيادية، تفاديا للخسائر، وكسبا للوقت؛ بحيث لا تتكرر أخطاء ما حصل في المعارك السابقة، كمقتل العميد عمر الصبيحي، قائد اللواء الثالث حزم، وخسارة العشرات من المقاتلين.
فالصبيحي، الذي انقطع عن العمل العسكري منذ أكثر من عقدين، لم يكن لديه من الخبرة ما يؤهله لذلك. لقد طغت شجاعته على خبرته، فكان مصيره منطقيا. بالمثل؛ دُفع بوزير دفاع سابق، هو العميد هيثم قاسم طاهر، ليقود المواجهة، بعد أن هجر بزته العسكرية منذ حرب عام 1994، لكنه، دون شك، يختلف عن غيره، فالرجل ذو خلفية عسكرية كبيرة، وقد يكون أقل اندفعا من الصبيحي، لكنه لن يكون في موقع اثنين يخوضان أو، على الأقل، شاركا بطريقة أو بأخرى في هذه العملية، وهما: اللواء فضل حسن، قائدة المنطقة العسكرية الرابعة، واللواء ثابت جواس، قائد محور العند، اللذان لم ينقطعا كثيرا عن العمل العسكري، بل خاضا معا حروب صعدة الستة، وشاركا بفاعلية في الحرب الراهنة ضد الحوثيين في عدن ولحج والضالع.
تظل مناطق الساحل الغربي عتبة هامة على طريق التقدم نحو العاصمة صنعاء؛ لأن السيطرة عليها يعني الخنق والموت البطيئ للانقلاب. إنها فاتحة الأبواب نحو النصر السريع، وإن التغاضي عن ذلك لا يمكن أن يشفع له عذر.
*باحث في الشئون الاستراتيجية