تتفاقم حياة اليمنيين المعيشية يوما بعد آخر، في هذا البلد الذي صارت التعاسة تتوارى خجلا من لصقها به، فوضع الناس المعيشي صار مخيفا وبائسا للغاية، المقصود بالناس هنا، التي لديها رواتب حكومية، أما الصنف الآخر ممن لا يملك عملا أو وظيفة حكومية، فقد أضحى في عداد الموتى ربما، في بلد أصبحت كل آفاق طلب الرزق والمعيشة مغلقة تماما أو كادت.
منذ أكثر من شهر، وجد الموظفون الحكوميون أنفسهم يقفون إلى جانب أولئك الذين لا يجدون وظائف، بعد رفض الانقلابيين الذين يغتصبون السلطة، من صرف المرتبات لموظفي الدولة من العسكريين والمدنيين، نتيجة لعدم قدرتهم من فعل ذلك، بعد عمليات نهب منظمة قاموا بها للموارد المالية، ونهب الاحتياطي النقدي للمركزي اليمني، الذي تم نقله إلى عدن مؤخرا.
ودفعت هذه الظروف عدد من الموظفين الحكوميين للبحث عن بدائل أخرى لطلب المعيشة، ومن ذلك أكاديميين تركوا التدريس في الجامعات ولجأوا إلى أعمال أخرى توفر تُدر دخلا بديلا وإن كان ضئيلا، لمكابدة الواقع، بعد أن تمرد عليهم من كان يقرضهم بعض الحاجات الأساسية، وقذفت بهم الضرورة إلى عدد من الأعمال كبيع "القات" وغيرها، حتى وإن كانوا اكاديميين يحملون الشهادات العليا، وتعد ممارسة مثل تلك الأعمال معيبة من وجهة نظر المجتمع الذي أوصله جهله وعصبيته إلى هذا الحال.
في زمن الميليشيات ليس هناك شيئا مستغربا أو مستهجنا، حتى وإن ترك الأكاديميون أعمالهم الأساسية في الجامعات، حتى ولو اضطروا على تركة مهنة تعليم الأجيال وتنوير عقولها، ف"الزوامل والنقاط الأمنية" قد تكون بديلا جيدا للعلم في نظر جحافل الإمامة ومخلفات الماضي.
قد لا يصدق المرء أن أكاديميا في جامعة صنعاء يحمل درجة البروفيسور اضطر لترك مهنة التدريس، وانخراطه، في مهنة "بيع القات"، كل المهن ليست عيبا اذن، ولا تجد هذه القامة العلمية الكبيرة حرجا من فعل ذلك، بعد أن أوصدت في وجهه كل السبل، وظل ينتظر قدوم هلال الراتب شهرا بعد آخر.
وحتى لا يكون ما سبق مجرد كلام انشائي ، أو من قبيل الدعاية، في نظر أصحاب الدعايات، الذين تلقوا دورات كثيفة في الضاحية الجنوبية، حتى يتمكنوا من الالمام بها، فلدينا أ.د عبد الله معمر الحكيمي أستاذ علم الاجتماع والانثروبولوجيا، بكلية الآداب بجامعة صنعاء، الذي انخرط في مهنة "بيع القات" ومثله العشرات من الأكاديميين والأطباء والمهندسين، تحت تأثير الواقع ومتطلبات الضرورة.
ولم يجد حرجا الدكتور الحكيمي من الإعلان عن مهنته الجديدة في منصات التواصل الاجتماعي، حتى وإن كانت تعد في نظر البعض مستهجنة في حق أكاديمي قضى شطرا من عمره في طلب العلم.
يقول الحكيمي إنه ترك مهنة التدريس في الجامعة وانخرط في مهنته الجديدة المتمثلة في عمله "كمساعد لمهندس تنقيب عن النفط سابقا مقوّت حاليا، والذي بات يعمل في مجال القات منذ 9 أشهر بعد تركه عمله ، مؤكدا عزمه على الاستفادة منه في بيع القات، حتى يكون مقوتا نجاحا" وهي مهنة في نظره قد تدر عليه من المال أفضل من بقائه مرتبطا بوظيفته الجامعية، لم يستفد منها شيئا، طالما وقد تخلت عنه في وقت احتياجه للمال ليواجه به متطلبات الحياة".
ويبرر سبب لجوئه في عمله الجديد بالقول "الراتب لم يصل بعد ولم نسمع تحديدا لموعد صرفه، والبقالة أغلقت فعلا، هروبا من الإحراج"َ! ويخاطب الدكتور الحكيمي طلابه، بمنشور على صفحته على "فيسبوك" حتى لا يتفاجؤوا من غيابه عن الجامعة، بصورة مفاجئة، في ظرف أصبح فيه الأكاديميون والمتعلمون مطاردون ومطلوبون لدى ميليشيتا الجهل، فيقول مصارحا لهم إن مهنة "بيع القات وان كانت مستهجنة في الاسواق العامة الا أنها لا تنقص منى ومنكم مطلقا، فأنا اجدها أشرف من مد اليد، او غسلها بدماء الغير، فيدي لن تكون الا طاهرة كما عرفتموها دائما".
ويتابع :"عليكم أن تتذكروا جميعا ودوما بأني كنت دائما أرفض احتساء كوبا من الشاي على حساب احدكم، وبأني وقفت ضد مأدبة الغداء التي كان يقيمها طلاب الدراسات العليا عقب مناقشة أطروحاتهم كنوع من التعبير عن الفرحة، لأني وجدت فيها مشقة على البعض منكم".
ويضيف: أنتم وحدكم من يستحق الاعتذار منكم، وان كنت واثقا كل الثقة بأنكم ستقدرون موقفي وسبب قراري هذا، الذي لا ولن يمس شرفكم وسمعتكم ويقلل من هاماتكم عندي مطلقا.
أما غيري ان حاول التعرض لكم ثقوا بأنه انسان جاهل أو غبي أو منافق فلا تأبهون الى قول".
ويمضي مخاطبا طلابه بالقول، مجليا لهم سبب لجوئه إلى عمله الجديد "فان كنتم أبنائي فلي أيضا أبناء لايزالون غير واعيين لما يدور حولهم، وبالتالي لا يمكنني تركهم يتضورون جوعا بسبب حرب عبثية قذرة أكلت كل شيء، لذا أثق بكم وبحكمتكم التي ساهمت في بنائها بعقولكم مع بقية زملائي أعضاء هيئة التدريس بالجامعة".
إذن هذا هو واقع الأكاديميين في هذا البلاد، نخبة الناس، ومن اكثر فئات المجتمع دخلا ألجأتهم الظروف، للبحث عن مهن ووسائل بديلة، بعد أكثر من شهر من انتظار الراتب من صنعاء أو من عدن، لكنه لم يأت فيما يبدو من أي منهما حتى الآن، لينضم الموظفون ومنهم ذوو الدخل المرتفع إلى قائمة البؤساء والمعدمين، في بلدٍ يكتظ بهم ويكتظون به.