كان الفلسطيني عبد الستار درويش (60 سنة) يمتلك محال تجارية، ومنزلاً مكوناً من ثلاثة طوابق في حي تل الهوى غربي مدينة غزة، وسيارة موديل 2018 من نوع سكودا، لكن حياته انقلبت رأساً على عقب بعد العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة.
يقول درويش: "كنت أعمل في تجارة الأدوات المنزلية والمكتبية، وأعتمد على البضائع المستوردة من الصين التي كانت تدخل عبر المعابر الإسرائيلية، وكان دخول البضاعة إلى القطاع يستغرق في بعض الأحيان أشهراً بسبب سياسة الحصار والرقابة المشددة على البضائع الفلسطينية، لكنني خسرت كل شيء، وأصبحت أتردد على طوابير المساعدات، وأترقب الأخبار التي تشير إلى أماكن نقاط توزيعها".
دمر العدوان الإسرائيلي محال درويش في ثلاثة أسواق شعبية، وأحرق مخازنه التي كانت في حي الشجاعية، ويؤكد لـ"العربي الجديد"، أن الخسارة شملت مصادر رزق قرابة 150 فرداً، من بينهم أشقاؤه الذين كانوا يعملون معه، وحوّلهم جميعاً إلى فقراء ينتظرون الحصول على المساعدات، إذ لم يترك القصف الإسرائيلي أي مجال حتى لاستخراج بعض البضائع لبيعها بعد انسحاب قوات الاحتلال من بعض المناطق.
يضيف: "ضاع كل ما نملك بكل ما في الكلمة من معنى. تعرضت لخسارة البضائع في مرات العدوان الإسرائيلي السابقة، لكني لم أتعرض يوماً للجوع إلا في هذا العدوان. كنت رجلاً مستوراً لديه بيت وعمل وأملاك وسيارة أتنقل بها مع العائلة إلى شاطئ البحر، وتحولت إلى شخص يتعرض للمذلة حتى يحصل على قليل من مواد المساعدات التي لا تصلح للأكل في أغلب الأوقات".
ويوضح درويش: "لم يكن المنزل والمحال والبضاعة والسيارة مجرد أموال، وإنما كانت حياة كاملة، كل حجر فيه ذكرى، ولحظات سعادة مع الأبناء والأحفاد، والمنزل الذي دمر كنا قد كتبنا على حائطه تهنئة عرس ابني الذي تزوج قبل أربع سنوات، وأنجب لي حفيدي الأول. حفيدي هذا الذي كان يعتبرني أقوى رجل يعرفه ينظر إلي حالياً بينما أنا ضعيف ولا أملك شيئاً".
يعيش الستيني الفلسطيني حالة إحباط كبيرة، ولا يتوقع أن يحصل على تعويضات في حال انتهاء العدوان، وإن حصل على تعويض فسيكون ذلك بعد سنوات، إذ كانت له تجربة سابقة، حين خسر محلين تجاريين أثناء عدوان عام 2014، واحتاج إلى أكثر من عامين حتى يحصل على نسبة من التعويض، لكنه مثل جميع سكان غزة، يترقب انتهاء العدوان، وعودة الحياة إلى طبيعتها، ويؤكد أنه سيحاول العودة إلى العمل، حتى لو بأقل الإمكانيات، ومحاولة إحياء ما تبقى من أملاك، وإنقاذ ما يمكن من بضاعته من تحت الركام.
وكانت كثير من عائلات قطاع غزة تعتمد في معيشتها على الوظائف أو المشاريع التجارية الخاصة، الكبيرة والصغيرة، فالبعض كانوا يعملون لدى الجهات الحكومية، أو في القطاع الخاص، وآخرون يملكون المحال التجارية، أو يملكون سيارات لنقل الركاب أو البضائع، أو حتى بسطات وعربات متنقلة يعتاشون منها، وكل ذلك بات غير متوفر حالياً.
ويترقب كثيرون أخبار التوصل إلى اتفاق ينهي الحرب الحالية، ويفرض وقفاً دائماً لإطلاق النار في القطاع، وإن كانوا لا يعرفون إن كان بإمكانهم العودة إلى حياتهم الطبيعية مجدداً، فحجم الدمار الذي لحق بالقطاع غير مسبوق.
وأعلن المكتب الإعلامي الحكومي في غزة، ارتفاع نسب الفقر إلى نحو 90 في المائة بالتزامن مع ظروف الحرب الكارثية التي أدت إلى توقف عمل نحو 95 في المائة من المنشآت الاقتصادية، ومن بينها المشروعات الصغيرة والمتوسطة، والتي تعرض الكثير منها لدمار واسع.
كان الفلسطيني علاء الشيخ (40 سنة)، يعمل سائقاً على سيارة أجرة يملكها، قبل أن يدمرها الاحتلال خلال قصف حي الكرامة في شمالي القطاع، ليفقد مصدر رزقه الوحيد للإنفاق على أسرته المكونة من سبعة أفراد. ويقول لـ"العربي الجديد": "يمكن حالياً مشاهدة أفراد من جميع الطبقات الاجتماعية في قطاع غزة في طابور الحصول على الخبز أو مياه الشرب أو المساعدات".
يضيف الشيخ لـ"العربي الجديد": "عايشت في السابق ظروفاً صعبة، إذ كنت أعمل سباكاً، وقبلها امتهنت النجارة، لكن بسبب الحصار الإسرائيلي وقلة الطلب على العمل، اضطررت إلى بيع مصوغات زوجتي، وشراء سيارة نقل عام أصبحت مصدر رزق أسرتي التي تضم أطفالي ووالدتي المريضة. كنت أعيش مستوراً قبل السابع من أكتوبر/تشرين الأول الماضي، بينما أعيش حالياً على المساعدات".
وعلاء واحد من خمسة أشقاء قست عليهم ظروف الحياة، وجميعهم يمارسون العمل الخاص، إذ يعمل أحد أشقائه في سوق الخضار، وآخر ميكانيكي، وثالث على عربة مشروبات أمام شاطئ البحر في شارع الرشيد بمنطقة الشيخ عجلين، ويملك شقيقه أيمن (35 سنة) بسطة في سوق الشيخ رضوان.
يقول علاء الشيخ: "هذه الحرب جعلتنا متسولين. لم أتصور في يوم من الأيام أنني سأنتظر لساعات للحصول على مساعدات. كنت أستيقظ في كل صباح على أغاني فيروز، وأتناول الإفطار، وأشرب قهوتي المفضلة، وحالياً أستيقظ على إنجاز أنني وأطفالي ما زلنا أحياء. كانت سيارتي هي طفلتي الرابعة، ومصدر رزقي الوحيد، وكنت أطلق عليها لقب (الغالية) لأن زوجتي باعت كل ذهبها لشرائها بعد أن توقف عملي. كنت أغسلها كما أغسل جسدي، وأخاف عليها كما أخاف على أولادي، وقد حزنت على فقدها أكثر من المنزل الذي أعتقد أنه أيضاً مدمر، بحسب آخر معلومات وصلت إلي عنه".
ويعاني غالبية سكان القطاع انعدام القدرة الشرائية في ظل توقف أعمالهم ورواتبهم، وفي بعض المناطق يتم عرض البضائع لساعات طويلة، لكن لا يشتريها أحد، ومن بينها المساعدات التي تضطر الأسر إلى بيعها لتوفير بعض المال، ومعظم العائلات تقتات على المساعدات المقدمة من برنامج الأغذية العالمي ووكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين "أونروا"، ويطاردون شاحنات المساعدات القليلة في كل مكان باعتبار أن ما تحمله هو المصدر الأساسي للطعام.
دمرت قوات الاحتلال عربة الفلسطيني هايل النجار المتنقلة التي كان يعمل عليها بائعاً للمشروبات الساخنة على شاطئ البحر في منطقة السودانية بشمال القطاع، والتي اصطحبها معه في رحلة النزوح على أمل أن يعمل عليها في المكان الذي يصل إليه، لكنها تعرضت للتدمير في قصف دمر منزلاً قريباً من منزل والد زوجته الذي نزح إليه في مخيم المغازي بوسط قطاع غزة.
يقول النجار لـ"العربي الجديد": "أنا خريج إدارة أعمال من كلية الدراسات المتوسطة في جامعة الأزهر بغزة قبل ثماني سنوات، ولم أحصل على فرصة عمل سوى مرة واحدة لمدة ستة شهور، وقد حصلت على العربة المتنقلة عبر دعم من جمعية خيرية، وأصبحت مصدر رزقي أنا وثلاثة من شقيقاتي وزوجتي وطفلتي ووالدتي، لكن الاحتلال دمر مصدر الرزق الوحيد لعائلتي، كما دمر منزلنا في مخيم جباليا".
ويؤكد مدير المكتب الإعلامي الحكومي في غزة، إسماعيل الثوابتة، فقدَ أكثر من 200 ألف فلسطيني لوظائفهم وأعمالهم في القطاع منذ بدء العدوان الإسرائيلي، والذي استهدف ودمر أكثر من 15 قطاعاً تجارياً، ووصلت الخسائر المباشرة إلى أكثر من 33 مليار دولار في جميع القطاعات، مما دفع نسب البطالة إلى الارتفاع إلى نحو 75 في المائة، ونتج عن ذلك نسبة غير مسبوقة من الفقر.
ويقول الثوابتة لـ"العربي الجديد": "فقد عدد كبير من أصحاب العمل والعاملين لديهم مصادر رزقهم، والكثير من أصحاب المهن الصغيرة الذين كانت لديهم محال بسيطة أو بسطات دمرت أعمالهم بالكامل، وتلك الأعمال الصغيرة كانت توفر لعائلات كاملة الطعام والشراب".
ويضيف: "هناك نحو خمسة آلاف صياد كانوا يعملون في قطاع غزة على طول الساحل، وقد منعهم جيش الاحتلال من دخول البحر، وكل واحد من هؤلاء وراءه عدد من الأفراد الذين يعولهم. هذه الأوضاع الكارثية امتداد لنحو 18 عاماً من الحصار الظالم المفروض على قطاع غزة، وقد بات غالبية الغزيين يعتمدون على المساعدات الإنسانية الشحيحة مصدراً أساسياً للبقاء على قيد الحياة".
العربي الجديد