منذ الثالث من رمضان، يشهد شارع الرشيد غربي مدينة غزة موجة تهجير جديدة من المنطقة الشمالية المحاصرة باتجاه مناطق وسط قطاع غزة بعد أن نفدت سبل الصبر التي حاول الأهالي التحلي بها في مواجهة الجوع، وبعد أن وصلوا إلى الحد الأقصى من الصمود الذي كانت نتيجته وقوع شهداء بسبب سوء التغذية، واستشهاد بعض المرضى من المسنين والأطفال الصغار.
فقد الأهالي الأمل في تحسن أوضاعهم في ظل عدم قدرة أي جهة على توصيل المساعدات الغذائية إليهم بسبب التعنت الإسرائيلي، وعدم جدوى الإنزال الجوي للمساعدات، فضلاً عن تراجع آمال الوصول إلى اتفاق يوقف العدوان.
سار عاطف الشريف (43 سنة) مع أسرته المكونة من 10 أفراد من مخيم جباليا وصولاً إلى مدينة غزة في أول أيام شهر رمضان أملاً في تأمين بعض الطعام للهرب من الجوع الذي يحاصرهم في محافظة شمال القطاع منذ أشهر، فالمساعدات الشحيحة التي تكلف بعضهم أرواحهم، لا تصل إلا إلى نقاط قريبة من مدينة غزة، لكنه أصيب بالإحباط بعد أن قضى الأيام الثلاثة الأولى من شهر الصيام على الحال نفسه من الجوع، ولم يستطع تأمين أي نوع من الطعام.
قرر الشريف خوض تجربة التهجير من جديد، والتوجه مع أسرته باتجاه الجنوب، مصطحباً معه عدداً من أفراد العائلة الذين كانوا يعيشون ما بين حي النصر ومجمع الشفاء الطبي، لكن خابت آمالهم عندما اكتشفوا عدم وجود أي وسيلة نقل، فساروا على الأقدام إلى نقطة قريبة من شاطئ البحر قبالة وادي غزة غرباً، ثم تابعوا السير من تلك المنطقة مروراً بالشارع الذي شقه الاحتلال الإسرائيلي رافعين الراية البيضاء، في حين يحيط بهم جنود الاحتلال.
نجح الشريف ومن معه في الوصول إلى مخيم النصيرات غربي المحافظة الوسطى، واستقروا في أرض خالية قريبة من مدرسة تابعة لوكالة إغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين "أونروا" في الشارع العام لمخيم النصيرات.
يقول لـ"العربي الجديد": "كنت أنا وأبنائي نلاحق الطائرات التي تنزل المساعدات على مدار الأيام الأخيرة، وكان الأمر مرهقاً للغاية، لكننا كنا مضطرين لأننا جائعون، وعشنا لفترة وهم قرب إدخال المساعدات بانتظام، ثم أفقنا على حقيقة أنه لا طريقة آمنة لإدخالها، فالعصفور في السماء يجد طعاماً أكثر منا نحن البشر المحاصرين".
يضيف: "كانت أمي تعيش حالة من الارتجاف الشديد بسبب نقص الطعام، وكنا رغم ذلك مصممين على الصيام، وأصبحنا لا نثق بأحد في المطلق، ولا نصدق أن أحداً حريص على إيصال المساعدات إلينا، ولفترة حاولنا تأمين الطعام اليومي قدر المستطاع، حتى لو من حشائش الأرض، ثم أصبحنا لا نجد شيئاً على الإطلاق، فقررنا الرحيل".
كمية المساعدات التي وصلت أقل كثيراً مما يحتاج إليه سكان شمالي غزة
ورغم إعلان وصول ست شاحنات مساعدات إلى محافظة شمال القطاع مساء أول من أمس السبت، لم يشعر كثيرون بأي تغيير حقيقي في مستوى تغذيتهم، فكمية المساعدات التي وصلت أقل بكثير مما يحتاج إليه السكان في المنطقة المحاصرة من محافظة غزة ومحافظة شمال القطاع، والمقدر عددهم بحسب المصادر الفلسطينية بأكثر من 350 ألف نسمة، إضافة إلى عدم الثقة بالجهات المانحة والمؤسسات الدولية التي ينظر الناس إليها بريبة كونها لم تساندهم طوال الفترة السابقة، فلم تضمن دخول المساعدات، حتى لو كانت قليلة، ولم توفر طرقاً لتأمين وصولها إلى المستحقين، كما أن بعضها غادر المنطقة في الأيام الأولى من العدوان استجابة لتهديدات الاحتلال.
كان معظم المهجرين الأخيرين على صيام، لكنهم واصلوا السير رغم الجوع والعطش والمشقة. من بين هؤلاء أسرة عبادة أبو خلف (46 سنة) والذي كان يطلب من المشاركين أن يحصل على قسط من الراحة كل ساعة أو ساعتين، وكرر خلال الرحلة النزول إلى البحر لترطيب جسده بالماء، حتى لو كان مالحاً، قبل أن يصل إلى وسط القطاع.
نزح أبو خلف عدة مرات منذ بداية العدوان، وتنقل بين المدارس الموجودة في حي النصر ومخيم الشاطئ، وتعرض سابقاً لاعتقال من قوات الاحتلال دام يومين، جرى خلالها استجوابه بقسوة، قبل أن يفرج عنه، ويعود إلى أسرته في المدرسة، عندئذٍ قرر العودة إلى منزله المدمر جزئياً خلف مجمع الشفاء الطبي، لكن أسرته كانت تعاني الجوع، وكان يذهب يومياً إلى المجمع الطبي في محاولة للحصول على أي طعام، وقد أصيب جميع أفراد أسرته بأمراض مختلفة بسبب الجوع، وأصيبت طفلته الصغرى بالجفاف.
واحد من كلّ ثلاثة أطفال دون عمر السنتين يواجه سوء التغذية في غزة
يقول أبو خلف لـ"العربي الجديد": "مررنا بمراحل كثيرة من الجوع، وحاولنا في البداية تقليص الطعام إلى وجبة واحدة في اليوم، ثم إلى وجبة كل يومين، وكنا على هذا الحال منذ شهرين، وأكلنا الخبز بعلف الحيوانات، ثم أكلنا حشائش الأرض، ولم نكن نملك المال ولا الطعام، لذا كان قراري بالنزوح، على الأقل سنحصل على وجبة طعام يومياً، ولن نموت منسيّين ومحاصرين في المنطقة الشمالية".
يضيف: "طفلتي الصغرى براءة (4 سنوات) أصيبت بالجفاف مرتين، وحصلت على محلول ملحي بدلاً من الطعام بعد أن نقلتها إلى مجمع الشفاء، وبذلت قصارى جهدي للبحث عن حليب أو مدعمات لها، وكنت في بعض المرات أستطيع الحصول عليه، لكن خلال الأيام العشر الأخيرة لم أكن أتمكن من الحصول على أي شيء، وكانت طفلتي معرضة للموت، وقد شاهدت وفاة كثير من الأطفال بسبب الجوع".
والسبت، قالت وكالة "أونروا" إن "واحداً من كل ثلاثة أطفال دون العامين يواجهون سوء التغذية في المنطقة الشمالية المحاصرة"، وأكدت أن الانزالات الجوية وغيرها من محاولات إدخال المساعدات التي تتطلب تنسيقات مع الجهات الإسرائيلية لا يمكن أن تسد جوع السكان، كما أنها مذلة لهم، ولا قيمة لها في مواجهة الأزمة المتفاقمة، كما أن جميع السكان في المنطقة المحاصرة يشربون المياه الملوثة لعدم توفر المياه النظيفة.
وتكمن أبرز مخاطر التهجير من شمال قطاع غزة في تجاوز المنطقة التي ينتشر فيها الاحتلال في غرب وسط القطاع، خصوصاً النقطة التي يكثر فيها وجود الاحتلال في الشارع الجديد الذي أطلق عليه الرقم 794، والذي يهدف الاحتلال من خلاله قطع التواصل بين الغزيين، ومراقبة حركة السير، وغالباً ما يمنع المرور منه بسبب وجود آليات عسكرية متحركة، أو تطلق النار باتجاه من يقترب.
وفي موجة التهجير الأخيرة، اعتقل الاحتلال أربعة شبان أعمارهم بين 25 و35 سنة، بحسب ما أكد لـ"العربي الجديد"، عدد من المهجرين الذين وصلوا إلى مخيمات وسط القطاع بعد أن سمح لهم الجنود بمواصلة السير.
وصلت المهجرة إنعام عليان (39 سنة) إلى مخيم النصيرات رفقة زوجها وأربعة من أبنائها وهم منهكون من الجوع، ثم انتقلت إلى الإقامة عند شقيقتها في مخيم دير البلح، وتقول إنه جرى اعتقال ابن زوجها أحمد عليان من على الحاجز رغم أنهم كانوا يحملون الراية البيضاء.
تضيف عليان لـ"العربي الجديد": "كانت رحلة تهجيرنا طويلة بداية من أقصى الشمال، إلى وسط مدينة غزة، حتى وصلنا إلى مخيم النصيرات، وتخلل ذلك عدة محطات ومنازل ومدارس، وقد فقدت الوعي بعد الوصول، ولما أفقت كنت أشعر بالسعادة لأننا استطعنا الوصول إلى مكان يتوفر فيه بعض الطعام لي ولأبنائي، رغم أنه قليل، ويوزع على عدد كبير من سكان المبنى الذي أقيم فيه مع أسرة شقيقتي وغيرها من المهجرين".
تتابع: "منذ وصولنا، يكرر زوجي يومياً محاولات شراء مزيد من الطعام، فطفلنا صهيب (5 سنوات) يعاني الهزال بسبب الجوع، وأحاول أن أطعمه في نطاق محدود حتى لا ترفض معدته الطعام، وينعكس ذلك سلباً على صحته، وقد كان يبيت ليالي طويلة على جوعه، وبكاؤه يجف على وجهه. كاد الجوع يقتلنا جسدياً ونفسياً، وكان الانتظار من دون فائدة، فلا طرق لتوصيل المساعدات إلى الناس، وكانوا يذلون الناس كلما أدخلوا شاحنات مساعدات، والكميات التي تدخل لا تكفي ربع حاجة الأهالي، لذا كان أمامنا خياران، إما النزوح، وإما البقاء والاستسلام للأمراض والموت، فاخترنا الرحيل".
تواصل: "قبل بدء رحلة التهجير الأخيرة، وضعنا في اعتبارنا أنه يمكن أن تنتهي بالموت، أو التعرض للاعتقال، وتم اعتقال شبان كانوا يرافقوننا من حي الشيخ رضوان، وليس لهم أي علاقة بشيء، بل كانوا مهجرين بسبب الجوع مثلنا، وكان أحدهم يعاني صعوبات في الحديث، ولم تشفع له حالته تلك، واعتقله جنود الاحتلال أمامنا".
العربي الجديد