حثّ المدير العام لـ"المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات" الدكتور عزمي بشارة المتضامنين مع الفلسطينيين والمقيمين العرب في الغرب، على قلب تهمة معاداة السامية التي يتعرضون لها بمكارثية موصوفة، إلى تشهير بمن يستخدمها بهدف حماية إسرائيل وحلفائها عقب اتهامها بارتكاب إبادة جماعية في غزة، في سياق ما يسميه الانتقال من الدفاع إلى الهجوم قانونياً وإعلامياً وسياسياً ضد الرواية الإسرائيلية ومن يسوّق لها في أميركا وأوروبا.
واعتبر بشارة أن "وضعنا كان سيكون أسوأ بكثير" لو لم يكن المتضامنون موجودين في الغرب. كذلك، نصح بالتوقف عن توقّع أي موقف حقيقي من الأنظمة العربية التي تجب محاسبة عدد كبير منها بتهمة التواطؤ مع الإبادة، ووصف إنزال المساعدات من الجو في غزة بأنه إهانة تعكس رفض الضغط على إسرائيل ورغبة في الضغط على حماس.
في هذا السياق، توقّع بشارة أن يصعّب تأليف قيادة فلسطينية موحّدة مقاوِمة، في حال حصل، استمرار مشروع التطبيع بين دول عربية جديدة وتل أبيب. على صعيد متصل، حذر من أن عودة السلطة إلى غزة مستحيلة بلا موافقة حماس حتى بعد انتهاء الحرب.
وتحدث عن السماح لأطراف معينة أكثر من غيرها بإدخال مساعدات وأموال إلى غزة حالياً لتبييض صفحتها، مشيراً إلى أن إيقاف الحرب مؤقتاً بموجب هدنة يخفف الإحراج عن حلفاء إسرائيل.
تهمة معاداة السامية... من الدفاع إلى الهجوم
وذكّر المفكر العربي، في حوار خاص مع "التلفزيون العربي" من مدينة لوسيل في دولة قطر، بجذور معاداة السامية في أوروبا، وكيف أن لا علاقة لها تاريخياً بمنطقتنا التي لم تعرف كرهاً لليهود بصفتهم يهوداً، وأشار إلى أنه بعد الحرب العالمية الثانية، لم تعد هناك فعلياً قضية لاسامية في أوروبا بموجب القوانين والثقافة والسياسة هناك، ولكن إسرائيل تصرّ على استخدام اللاسامية لتقمص دور الضحية حين تكون هي المجرمة، وفق تحليله.
وضْع يراه بشارة مريحاً لأوروبا، لأنه يحررها من عقدة الذنب ويرمي العقدة على منطقة أخرى ويزيح التهمة إلى طرف آخر، كذلك فإن الأمر يعزز كراهية الآخر المهاجر، المسلم في الغالب.
ورأى بشارة أن التهمة (معاداة السامية كمعادل لمعاداة الاحتلال ونظام الفصل العنصري الإسرائيلي) أصبحت أداة للقمع الفكري في الغرب، لكنه وجد في المقابل جانباً غير مظلم هو "حاجة إسرائيل لقمع المعارضين لها في أوروبا بحجة ضعيفة مثل اللاسامية، بدل العدة الدعائية القديمة، كالديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط، وهذا دليل على أن الرواية الإسرائيلية لم تعد مقنعة"، على حد تعبيره.
ووصف النضال اليوم في الغرب بأنه مهم، "لأن هذا حلف مهم لإسرائيل (مع الغرب)، وظهر حجم التحالف بعد 7 أكتوبر (تشرين الأول)، وأن إسرائيل لا تصمد من دون هذا التحالف".
وقال بشارة إنه "في صراعنا هذا، يجب صياغة قضيتنا بموجب المبادئ والقيم الإنسانية (العدالة والحرية...) التي يدعي الغرب أنه يتبناها، وبالتالي يجب أن تكون لدينا قدرة على التأثير على المصالح، لأنه يجب أن ينتهي توقع شيء من الأنظمة العربية".
أكثر من ذلك، استعاد بشارة الدعوى التي تقدمت بها نيكاراغوا ضد ألمانيا أخيراً أمام محكمة العدل الدولية بتهمة التواطؤ مع الإبادة الجماعية في غزة، ليقول إن هذه التهمة يجب أن توجَّه أيضاً إلى دول عربية.
وعن المتضامنين مع فلسطين والمشمئزين من طريقة إدارة الحرب الإسرائيلية، لاحظ بشارة أن دائرتها تتسع، و"كان وضعنا سيكون أسوأ بكثير لو لم تكن هذه الحركات موجودة في الغرب".
وفي هذا الإطار، استعاد مدير "المركز العربي" ما سبق أن قاله في محاضرته أمام مؤتمر طلاب الدكتوراه العرب في الجامعات الغربية، الذي عُقد قبل يومين في الدوحة، ومفاده أنه يجب أن نناضل في الغرب "بكلام عقلاني بلا مبالغات، لنثبت أن رأينا صحيح وليس فقط تمسكاً بحرية التعبير، أي إثبات أن الحاصل في غزة بالفعل إبادة جماعية، وبالفعل إسرائيل نظام فصل عنصري، أبارتهايد".
وهذا ما يحتاج بحسب المفكر العربي إلى "قلب تهمة اللاسامية إلى تشهير"، أي الانتقال من الدفاع عن النفس إلى الهجوم في مواجهة المكارثية الجديدة السائدة في أوروبا وأميركا.
وأقر بشارة بأن هذا جهد قضائي أساساً، ومكلف مادياً غالباً، وبأن الصهيونية لديها تجربة عريقة في جمع التبرعات والأموال الصغيرة من الجاليات والتشبيك وإقامة الصناديق، و"هذا أمر ناقص بالنسبة للعرب والمسلمين". لكنه نوه بالتجربة الناجحة قضائياً في هذا السياق في الولايات المتحدة الأميركية، وتوقع أن تحذو الجاليات العربية والمسلمة في أوروبا حذو نظيرتها في أميركا دفاعاً عن نفسها وعن مصالحها.
أما بالنسبة إلى ما يسميه بشارة التضامن غير الكافي في الوطن العربي مع قضية فلسطين، فإنه شدد على أن حقيقة أن المواطن العربي مغلوب على أمره ومقموع لا تبرر واقع أن المتوقع كان أكثر بكثير من مستوى التضامن الحالي.
احتمالات الهدنة واعتبارات الأطراف المعنية
ورداً على سؤال حول تقديره لاحتمالات التوصل إلى اتفاق هدنة وتبادل أسرى بين حركة حماس والاحتلال الإسرائيلي، رأى بشارة أن هناك ضغطاً عالمياً شديداً بعد الإحراجات الكبرى التي تسببها إسرائيل لحلفائها بجرائمها الشنيعة، وآخرها مجزرة شارع الرشيد التي حرّكت الضمير العالمي "إن كان هناك ضمير عالمي"، وفق كلام مدير "المركز العربي".
ولفت إلى أن إيقاف الحرب ولو مؤقتاً بموجب هدنة يخفف الإحراج عن حلفاء إسرائيل، "لكن (رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين) نتنياهو غير معني بذلك، ويحاول الاستمرار ويخشى أن يعيق وقف طويل للنار استئناف الحرب لاحقاً وشحن الجيش مجدداً إلى المعركة".
ورجح أن نتنياهو لا يزال يناور لعرقلة الاتفاق، وإن لم يستطع عرقلته فإنه يحاول أن يحسّن شروطه بالنسبة إليه. وكرر بشارة موقفه بأن هذه الإدارة الأميركية عاجزة تماماً عن لجم نتنياهو، ولكن (الرئيس الأميركي جو) بايدن أحرج نفسه بتحديده يوم الاثنين (غداً) موعداً لوقف النار، ثم إن موضوع رمضان وضرورة وقف إطلاق النار قبل بدء ذلك الشهر (في حدود 11 من مارس/آذار الحالي) مهم بالنسبة إلى جميع الأطراف.
وعن هذا الموضوع، جزم مجدداً بأن أميركا لا تسير باتجاه وقف الحرب، بل مجرد تغيير شكل هذه الحرب ونمطها بشكل يتم فيه القضاء على قوة حماس وقدرتها على حكم غزة لاحقاً، بينما إسرائيل تريد المواصلة من دون أية قيود على طريقتها الوحشية المتواصلة.
وكشف المفكر العربي عن أن أميركا تحاول إقناع حماس من خلال الوسطاء بالموافقة على الاتفاق الحالي، على اعتبار أن وقفاً لإطلاق النار بموجب المرحلة الأولى (بين 35 و45 يوماً) سيصعّب العودة إلى الحرب، ولكن من دون أية ضمانات.
ولفت بشارة إلى مدى حرص تل أبيب على منع أي مظهر لتنظيم إدارة الحياة في غزة، بدليل أنه خلال كل تهدئة عسكرية بسيطة تعيد أوساط من حكومة غزة السابقة محاولة تنظيم الحياة وضبط الفوضى، وكلما أدركت إسرائيل ذلك، تستأنف القصف لإحباط أي تنظيم من هذا النوع.
وأوضح في هذا الإطار أن إسرائيل تريد التحكم بحركة الناس بين الشمال والجنوب، وقد تسهل قريباً حركة السكان من منطقة رفح إلى مناطق أخرى لكي يخف عدد السكان هناك، ويسهّل عليها ذلك حربها على المحافظة الجنوبية.
في غضون ذلك، وصف إنزال المساعدات من الجو بأنه "إهانة وتواطؤ مع أساليب إسرائيل بالتجويع والحصار"، ووجد أن أطرافاً تُسقط المساعدات من الجو "نتيجة عدم رغبتها في الضغط على إسرائيل، وبدل ذلك الضغط على حماس، وفي الوقت نفسه يظهرون إعلامياً كأنهم يفعلون شيئاً حيال الكارثة الإنسانية".
لا تمرّد من غانتس على نتنياهو
وفي موضوع متصل، أوضح بشارة أن الوزير في حكومة الحرب بني غانتس لا يتمرد على نتنياهو من خلال زيارته الحالية إلى واشنطن، لأنه ليس تحت مظلة نتنياهو وليس جزءا من الائتلاف الحكومي، بل دخل كابينت الحرب ليحافظ على وضعه الشعبي خلال الحرب، وهو يتجاوب مع قاعدته الاجتماعية التي تكره نتنياهو، ويريد أن يتمايز عنه، وأفضل طريقة للتمايز هي أن تكون له علاقة وطيدة مع أميركا.
وتابع بشارة أن نتنياهو يعتبر نصائح أميركا خطراً قد يتسبب بخسارة إسرائيل، وأكد أن أميركا غير راضية عن سلوك نتنياهو، لكنه مجرد "عدم رضا خجول".
وعن موضوع غانتس، أضاف بشارة أن أميركا يهمها إعطاء دفع ودعم لغانتس في أي انتخابات مقبلة يُحتمل تنظيمها هذا العام على خلفية تفاقم الأزمة السياسية الكبيرة في إسرائيل، التي تتعلق بإعفاء المتدينين اليهود من الخدمة العسكرية، لأن الخلاف حول ذلك مختلط مع الخلاف حول الإصلاحات القضائية، وقد اتخذ شكل صراع علماني ــ ديني. وشرح أن الوقت مناسب للعلمانيين حالياً للتأليب على ممثلي المتدينين في مرحلة الحرب.
لا جديد في اجتماع موسكو للفصائل الفلسطينية
وحول اجتماع الفصائل الفلسطينية في موسكو الأسبوع الماضي، لم يجد بشارة مؤشرات إيجابية منه، فهو برأيه اجتماع مثل الاجتماعات السابقة، بيانه السياسي جيد، لكن الفصائل كانت في المرات السابقة أيضاً تُظهر حرصاً على الوحدة، غير أنه عندما تصل الأمور إلى السلطة الفلسطينية، تتعرقل، حتى بالنسبة إلى فتح، كأن الأمر فيه ازدواجية، كفصيل من جهة، وكعمود فقري للسلطة من جهة ثانية، وفق تقدير مدير "المركز العربي".
وأعاد بشارة تكرار موقفه بأنه إذا كانت ستقوم حكومة مقبولة دوليا، فإنها تحتاج إلى مرجعية سياسية لا بد أن تكون في إطار منظمة التحرير الفلسطينية، لكي نستغل الفرصة ونفرض حلاً عادلاً أو على الأقل نحبط أي إمكانية لفرض "أوسلو جديد" على قطاع غزة.
وحذّر من أن تجاوز الانقسام مطلوب ليس فقط بين حركتي فتح وحماس، بل أيضاً بين غزة والضفة. وجزم بأنه يمكن تحويل الكارثة إلى فرصة في حال تأليف قيادة موحدة تتمسك بالحل العادل وبمواجهة ما يتم التخطيط له من قبل إسرائيل وأميركا ودول عربية، لأنَّ "قضية فلسطين لم تشهد في تاريخها مثل هذا الاستقطاب ومثل هذا التحشيد العالمي لمصلحتها".
ونبّه من أن "هذا نفوّته إن كانت هناك قيادة في غزة مكسورة الجناح ومستعدة لأن تكون وكيلاً للاحتلال، ولا يمكن أن تعود السلطة إلى غزة من دون موافقة حماس حتى بعد الحرب".
وأردف أنه "إن نشأت قيادة فلسطينية تتحدث باسم مقاومة الاحتلال، سيكون صعباً على بلدان عربية إضافية أن تواصل مشروعها التطبيعي مع إسرائيل". وفقط قيادة موحدة من هذا النوع قادرة على منع إسرائيل وحلفائها من تحويل الضحية إلى مذنب وإشراك إسرائيل في إدارة غزة مع دول عربية، وفق كلام الدكتور عزمي بشارة.
وعن موضوع قد يكون مرتبطاً بما يُخطط له بالنسبة لغزة خصوصاً، وفلسطين عموماً، تحدث بشارة عن أنه "يُسمح حالياً لأطراف معينة أكثر من غيرها بإدخال مساعدات وأموال إلى غزة، وذلك بهدف تبييض صفحتها".
المصدر: العربي الجديد