تستمر آلة القتل الإسرائيلية في حصد عشرات الغزيين يومياً، ومن بين هؤلاء الشهداء أطفال وآباء وأمهات، وبينما يعيش في قطاع غزة آلاف الأيتام، زاد العدوان الأخير من هذه الأعداد.
أنجبت الفلسطينية إسلام فرج (30 سنة) طفلها الثاني في 25 يناير/كانون الثاني الماضي، في مستشفى بمدينة رفح بعد معاناة شديدة بسبب تكرار النزوح منذ بدء العدوان الإسرائيلي، وما نجم عنه من نقص للأدوية الداعمة التي تحتاجها النساء الحوامل خلال فترة الحمل الأخيرة.
أطلقت إسلام على وليدها اسم والده الشهيد زكريا فرج، والذي استشهد عن 35 سنة، في 17 نوفمبر/تشرين الثاني 2013، في حي النصر بمدينة غزة، عندما تم استهداف المنازل في منطقة العيون التي تضم العديد من المستشفيات مثل مستشفى الأطفال ومستشفى العيون ومستشفى الرنتيسي التخصصي ومستشفى الصحة النفسية.
عايشت إسلام وزوجها الحصار عندما توغل الاحتلال في المنطقة، وطلب من المواطنين، وغالبيتهم من النازحين في المستشفيات، المغادرة سريعاً، وترك المصابين والمرضى، وتنقلت الأسرة خلال رحلة النزوح بين مناطق متنوعة، من بينها عدد من المدارس التابعة لوكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين "أونروا"، والتي كانت طواقمها تتيح لها البقاء كونها في أشهر الحمل الأخيرة، وتحتاج إلى رعاية خاصة، وخلال رحلة النزوح فقدت زوجها شهيداً، ثم استشهد شقيقها مصطفى (20 سنة) في شمالي القطاع خلال ذات الشهر.
تقول فرج لـ"العربي الجديد": "في بداية العدوان الإسرائيلي واجهتني آلام شديدة، وعشت فترات من الخوف والقلق أن تؤثر على حملي، وكان زوجي يحاول أن يوفر لي احتياجاتي، وقدرا من الأمان حرصاً على سلامتي وسلامة جنيني، والذي كان الطفل الذكر الأول في العائلة، وكذا سلامة طفلتي البالغة 6 سنوات، لكن طفلي ولد بعد استشهاد والده".
تضيف: "بعد أن استشهد زوجي مشيت كثيراً من شمالي القطاع حتى وصلت إلى منطقة الوسط، ودخلت إلى مستشفى شهداء الأقصى للعلاج، إذ كنت أعاني من نزيف متقطع، واعتقدت أنني فقدت طفلي، وتكرر ذلك في كل رحلة نزوح، فكنت بعد الوصول إلى وجهتي أتوجه إلى المستشفى للاطمئنان على جنيني، وعادة كنت أتلقى العلاج في المستشفى واقفة، إذ لا تتوفر أسرة للعلاج بسبب أعداد الجرحى، وحتى قبل أسبوع واحد من الولادة، كنت أعاني من آلام شديدة، وعند قدومه قررت أن يحمل اسم والده الشهيد زكريا، لأن زوجي دافع عنه وعن والدته حتى آخر أنفاسه".
لا توجد إحصاءات دقيقة حول أعداد الأيتام منذ بدء العدوان الإسرائيلي
كانت إسلام فرج واحدة من مئات الغزيات اللواتي عانين بشدة في أيام حملهنّ الأخيرة، وأنجبنَ أطفالهنّ تحت القصف الإسرائيلي، ومثلها كثير من النساء اللواتي أطلقن على مواليدهن أسماء شهداء، سواء من الأزواج أو الأشقاء.
بعد استشهاد والده، وضعت سحر أبو ستيتة (28 سنة) طفلها الأول في مجمع ناصر الطبي في خانيونس، في السابع من يناير/كانون الثاني الماضي، وقررت البقاء في المستشفى رفقة أسرتها كون رضيعها بحاجة إلى العلاج والرعاية، إذ تم وضعه عقب ولادته في الحضانة إذ ولد مع بعض مشاكل النمو. بعد ثلاثة أسابيع على الولادة، نزحت مع طفلها ووالديها ضمن آلاف من النازحين بعدما أجبر الاحتلال الإسرائيلي المتواجدين في المستشفى على المغادرة تحت تهديد القصف.
قضت أبو ستيتة أوقاتاً صعبة قبل الولادة داخل مجمع ناصر الطبي، وكانت تحصل على العلاج بصعوبة في ظل عدم توافره، حتى أنها في الكثير من المرات كانت تتلقى محلولاً ملحياً فقط، وكانت تعتمد على الوصفات الشعبية والمشروبات الساخنة التي تعدها والدتها من أجل مساعدتها على التحمل، وفي النهاية خضعت لولادة طبيعية، وحين ولدت ابنها أطلقت عليه اسم والده الشهيد سليمان أبو ستيتة.
تقول سحر لـ"العربي الجديد"، من داخل مدرسة ذكور رفح الابتدائية القريبة من مخيم رفح: "استشهد زوجي أثناء تواجده في منطقة البلد في مدينة خانيونس، في 25 ديسمبر/كانون الأول الماضي، وعشت صدمة كبيرة بعدها، وكانت حالتي الصحية صعبة، وأذكر أنني كنت أبكي بشكل متواصل، ليس فقط بسبب الحزن الكبير، وإنما أيضاً بسبب آلام متزايدة في ظهري، ولم أكن أستطيع التنفس بشكل جيد، فضلاً عن خوفي الشديد على سلامة جنيني، وكنت أتوقع أن يصيبني مكروه في أي لحظة".
تضيف: "كانت عملية الإنجاب أشبه بمعجزة، وكلما أتذكر حجم الآلام التي تعرضت لها أشعر بضغط نفسي كبير. أعيش حالياً وسط آلاف من النازحين من دون مقومات الحياة الأساسية، وكانت الأيام الأولى لطفلي شديدة الصعوبة، لكنه نجا من كل الصعاب، وهو الأمل الأخير بالنسبة لي في غزة. كان زوجي الشهيد ينتظر الطفل بفارغ الصبر، وكنا نريد تسميته آدم، لكن بعد أن استشهد قررنا أن يحمل اسم والده سليمان".
ولا توجد إحصاءات دقيقة حول أعداد الأطفال الأيتام منذ بدء العدوان الإسرائيلي الحالي، والذي دخل منتصف الشهر الخامس على التوالي، ارتكب فيها الاحتلال أكثر من 2500 مجزرة تم توثيقها من قبل المكتب الإعلامي الحكومي في غزة، وشهدت مسح أسر كاملة من السجلات المدنية، وبعض الأسر تبقت منها أعداد قليلة من الأفراد، من بينهم أطفال أيتام.
وحسب البيانات المسجلة لدى وزارة الصحة في غزة، وإحصاءات المستشفيات التي شهدت عمليات ولادة، خصوصاً في مدينة رفح، تجاوز عدد المواليد منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول حتى منتصف فبراير/شباط الحالي، 22 ألف طفل، علماً أنه في نهاية أكتوبر الماضي، تحدثت وزارة الصحة عن وجود قرابة 50 ألف سيدة حامل، وأنهنّ معرضات للخطر في ظل عدم الاستقرار النفسي، وحركة النزوح المستمرة، وعدم توفر الرعاية الصحية اللازمة لهن.
وتقدر جهات صحية في قطاع غزة ولادة قرابة 500 طفل بعد استشهاد آبائهم خلال العدوان الإسرائيلي، بينما يتواجد في الوقت الحالي نحو 60 ألف سيدة حامل مسجلات لدى وزارة الصحة ووكالة "أونروا" للحصول على المستلزمات الطبية والعقاقير اللازمة خلال فترة الحمل.
في شمال قطاع، وبعد الانسحاب الإسرائيلي من بعض المناطق، مثل مخيم جباليا، جرت بعض الولادات في إحدى الغرف الصغيرة داخل مستشفى كمال عدوان الذي سبق أن اقتحمه جنود الاحتلال، وارتكبوا داخله عدة مجازر خلفت استشهاد مرضى، واعتقل عدد من أفراد الطواقم الطبية.
أنجبت سوليمة أبو عيد (34 سنة) طفلها عبد العزيز في العاشر من فبراير الحالي، وسط ظروف قاسية، إذ كانت تعاني من آلام في البطن قبل أسبوعين من الولادة، وأصيبت بالبرد من دون أن تتلقى أي علاج في ظل منع جيش الاحتلال وصول المساعدات الغذائية والأدوية إلى شمالي القطاع. عندما دخلت أبو عيد غرفة الولادة، كانت تفتقر إلى أدنى المقومات الطبية، وخضعت لولادة طبيعية بعد مخاض استمر ست ساعات.
استشهد زوج سليمة في منتصف يناير الماضي، وكان جنينها يواجه الخطر طوال الأشهر الأخير، إذ إنها نزفت أثناء رحلة النزوح من أحد المنازل في منطقة بلوك 2 في مخيم جباليا. ولد الطفل عبد العزيز داخل غرفة المستشفى، وتقرر أن يحمل الاسم الذي اتفقت أمه عليه مع والده الشهيد زيد أبو عيد (40 سنة)، وهو اسم شقيق والده الذي استشهد في بلدة بيت حانون، خلال العدوان الإسرائيلي في عام 2014.
تقيم أبو عيد وطفلها حالياً في أحد المنازل القريبة من مستشفى كمال عدوان في مشروع بيت لاهيا، وتقول لـ"العربي الجديد": "لدي ابنتان، مريم وزينب، وكان زوجي ينتظر أن نرزق بطفل ذكر حتى يحمل اسم شقيقه الشهيد الذي كان متعلقاً به كثيراً، وأتذكر شعوره عندما اكتشفنا أنه ذكر قبل أسابيع قليلة من العدوان الإسرائيلي. كان يبكي لأنه سيرزق أخيراً بولد يحمل اسم شقيقه، ويكون سنداً لشقيقاته وأمه".
تضيف: "طفلي ليس الوحيد الذي ولد يتيماً، فقد كانت معي سيدة في غرفة الولادة، وقد ولدنا في نفس اليوم، وكان طفلها أيضا ابن شهيد. التفكير في المستقبل صعب جداً، وحالياً لا أعرف كيف سيكبر أطفالي، وكيف سأتمكن من رعايتهم وحدي، لكن ابني سيعرف أن والده شهيد، وأنه يحمل اسم عمه الشهيد، وأن العدو واحد. أطفالنا يجب أن يعيشوا بسلام، لكن الاحتلال لا يريد السلام، ويريد أن يدمر مستقبلنا ومستقبل أطفالنا".
العربي الجديد