في توقيت مريب، أعلنت المستشارة القضائية لحكومة الاحتلال الإسرائيلي غالي بهراف ميارا، والمدعي العام عميت آيسمان، في بيان رسمي الليلة الماضية، أن أجهزة إنفاذ القانون الإسرائيلية تفحص في هذه الأيام تصريحات صدرت عن مسؤولين إسرائيليين تحرّض على قتل المدنيين، في إشارة إلى دعوات الإبادة الجماعية في قطاع غزة والتهجير.
وحذر البيان من أن "تصريحات من هذا النوع قد تشكّل مخالفات جنائية، بما فيها مخالفات تحريض".
ويأتي هذا الموقف استباقاً لأول جلسة ستعقدها محكمة العدل الدولية في لاهاي، غداً الخميس، للنظر في الدعوى المرفوعة من قبل دولة جنوب أفريقيا ضد دولة الاحتلال الإسرائيلي، وتتهمها بارتكاب عمليات "إبادة جماعية" في قطاع غزة.
وربما يأتي هذا الموقف الإسرائيلي في إطار المراوغات لتبدو إسرائيل "كدولة تحافظ على حقوق الإنسان وتحاسب المخالفين فيها، حتى لو كانوا مسؤولين سياسيين"، ولكن على الجانب الآخر يحظى الوزراء وأعضاء الكنيست بحصانة واسعة، تحميهم من المحاكمة في كل ما يتعلق بحرية التعبير، وعملياً لن تتم محاسبة من شكّلت تصريحاتهم دعوات للقتل الجماعي والتطهير العرقي.
وجاء في البيان أن "دولة إسرائيل، بما في ذلك الأجهزة الأمنية، مُلزمة بالتصرف وفقًا لمبادئ القانون الدولي وقوانين الحرب. إن التصريحات التي تدعو إلى أمور، من بينها المس المتعمّد بالمدنيين الذين لا صلة لهم (بالحرب)، تتعارض مع السياسة المتّبعة، وقد تشكّل جرائم جنائية، بما في ذلك مخالفات التحريض. في هذه الأيام، هناك عدد من القضايا قيد التحقيق من قبل سلطات إنفاذ القانون".
وتتوالى التصريحات الإسرائيلية الداعية إلى إبادة سكان قطاع غزة خلال الفترة الماضية، ومن بين الأمثلة على ذلك ما صرّح به، خلال حديث للقناة 14 الإسرائيلية، مطلع شهر يناير/ كانون الثاني الجاري، النائب في الكنيست الإسرائيلي عن حزب "الليكود" موشيه سعدة، بأن الدعوات إلى إبادة جميع سكان غزة باتت شائعة في الآونة الأخيرة، مضيفاً: "كما هو واضح للجميع اليوم، فإن اليمين كان محقاً في المسألة الفلسطينية. اليوم الأمر بسيط، في كل مكان أذهب إليه يقولون لي (أي الإسرائيليين) يجب إبادة سكان غزة جميعاً".
وتابع: "زملائي (سابقاً) في مكتب المدعي العام الذين حاربوني في قضايا سياسية وفي جدالات سابقة، يقولون إنه يجب إبادة جميع الغزيين، وهذه أقوال لم أسمعها من قبل أبداً".
ونقلت القناة السابعة الإسرائيلية، في نهاية شهر ديسمبر/ كانون الأول الماضي، عن جندي إسرائيلي يُدعى عميت باراك، وهو من مؤسسي الحركة اليمينية المتطرفة "إم ترسو"، قوله بعد مشاركته في معارك في قطاع غزة، إنّه "لا يوجد في غزة أبرياء، ولا يوجد أشخاص غير ضالعين في الحرب، لا يوجد حماس في غزة، بل غزة هي حماس".
وفي نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي، قال وزير التراث الإسرائيلي عميحاي إلياهو إنّ "إلقاء قنبلة نووية على قطاع غزة أحد الخيارات المطروحة"، زاعماً "عدم وجود أبرياء في القطاع".
بيان من أجل الردع فقط
ولم تكن هذه التصريحات والمواقف الوحيدة التي خرجت للعلن، ما أثار بعض المخاوف الإسرائيلية باستخدامها ضد دولة الاحتلال في المحكمة الدولية، وعليه يمكن تفسير موقف المستشارة القضائية والمدعي العام وبيانهما المشترك كخطوة استباقية عشية انعقاد جلسة المحكمة الدولية.
ويفسّر هذه الخطوة أيضاً ما نقله موقع "واينت" العبري، اليوم الأربعاء، من تقديرات مسؤولين سياسيين إسرائيليين لم يسمّهم، قولهم إن التهديد بالتحقيق الذي يرمز إليه البيان يأتي من أجل ردع أعضاء الكنيست الذين يكثرون من الإدلاء بتصريحات من النوع.
وبحسب المسؤولين السياسيين أنفسهم، فإن "المخاوف تكمن في استغلال هذه التصريحات من قبل المدّعين والقضاة في محكمة العدل الدولية في لاهاي، كإثبات بأن إسرائيل تنفذ جرائم وتستلهم ذلك من تصريحات قادة سياسيين".
ويذكّر هذا التفسير، إضافة إلى البيان، بشكل أو بآخر، بـ"مبدأ التكامل" في القانون الدولي، والذي يمنح أي دولة لديها جهاز قضائي مستقل إعفاءً من المثول أمام المحاكم الدولية، في حال نظرت محاكمها في القضايا المختلفة، وهو مبدأ كثيراً ما اعتمدت عليه إسرائيل، رغم أن المحكمة العليا غالباً ما تنحاز للاحتلال في القضايا المتعلقة بالفلسطينيين.
وهنا أيضاً يأتي البيان ليوحي للمحكمة الدولية بأن ثمة جهات في إسرائيل والكنيست والحكومة، فضلاً عن جهاز القضاء، تتصدى للمواقف المتطرفة وتحاسب المسؤولين عنها، وأن تصريحاتهم حتى لو كانوا في مناصب رفيعة لا تمثّل دولة الاحتلال، وهذا قد ينطوي على محاولة خداع لقضاة المحكمة الدولية، ومحاولة للتأثير عليهم قبل انطلاق الجلسات.
وهنا يمكن القول إنه لذات الاعتبارات، اختار رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو، القاضي المتقاعد أهارون باراك، الرئيس السابق للمحكمة العليا الإسرائيلية، لتمثيل إسرائيل في فريق قضاة محكمة العدل الدولية، في إطار الدعوى التي رفعتها جنوب أفريقيا، رغم التوتر بينهما.
وبموجب النظام الأساسي لمحكمة العدل الدولية، فإن الدولة التي ليس لديها قاضٍ يحمل جنسيتها في هيئة المحكمة يمكنها أن تختار قاضياً خاصاً للجلوس في قضيتها، لينضم إلى 15 قاضياً تتألف منهم هيئة المحكمة. في المقابل، سيتولى البروفيسور البريطاني مالكولم شو الفريق القانوني الذي سيترافع نيابة عن إسرائيل أمام المحكمة.
وجاء اختيار نتنياهو لباراك نظراً لمكانة الأخير، مراهناً على إمكانية تشكيله طوق نجاة لدولة الاحتلال في المحكمة الدولية، كما يكتسب باراك أهميته بالنسبة إلى إسرائيل من تجربته الغنية في القانون الدولي، خصوصاً في ما يتعلق بالاحتلال والنزاعات، وفصله في قضايا تتعلق بممارسات دولة الاحتلال وجيشها ومختلف مؤسساتها بحق الفلسطينيين.
وشكّلت نظرة باراك في بعض القضايا طوق نجاة للاحتلال، كما أن قراراته خدمته أمام العالم ومنحته مسوغات قانونية، ذلك أنه في كثير من الأحيان لم يكن يشد الحبل حتى نهايته ضد الفلسطينيين، في قضايا كثيرة، منها على سبيل المثال نقل مكان جزء من جدار الفصل العنصري بدل إلغائه لدى وجود طعون ضده، وعدم منع الاغتيالات التي تنفذها إسرائيل، ولكن وضع ضوابط تسمح بها حتى لو أدت إلى موت آخرين غير المستهدفين.
وفي موضوع الاستيطان، لم يذهب القاضي باراك إلى ما يقوله القانون الدولي، بأن الاستيطان في الأراضي الفلسطينية المحتلة يُعتبر جريمة حرب، بل قام بتنميقه وتسويغه بموجب تفسير جديد أوجده للقانون الدولي، بأنه قد يكون مسموحاً به لأسباب أمنية، والحالة الوحيدة التي اعتبر فيها الاستيطان مخالفاً للقانون عندما يكون على أراضٍ فلسطينية بملكية خاصة.
وعموماً، كان القاضي المتقاعد باراك فعلياً يدعم موقف الأجهزة الأمنية وموقف الحكومة الإسرائيلية، ولم يكن يعارض الجهاز الأمني بشكل دائم، وإنما كان في كثير من الحالات، عندما يكون موضوع الأمن على المحك، يعطي الضوء الأخضر للجهاز الأمني ولجيش الاحتلال الإسرائيلي. وأكثر من ذلك، كان يعطي الأخير مسوّغات قانونية بموجب تفسير للقانون الدولي، خاصة القانون الدولي الإنساني المتعلق بالأراضي الفلسطينية المحتلة، وهو صهيوني مؤيد لسياسات إسرائيل، ويهودي وطني يؤمن بالصهيونية.
المصدر: العربي الجديد