بعد ما يقرب من ثلاثة أشهر من الحرب الإسرائيلية على غزة، هناك أمر واحد لا جدال فيه: لقد عاد القطاع المعزول لفترة طويلة إلى مركز الصراع الإسرائيلي الفلسطيني.
 
لقد بدا وكأن الزعماء والهيئات الدولية تفترض أن هذا الجيب المكتظ الذي يسكنه 2.3 مليون فلسطيني من الممكن استبعاده إلى أجل غير مسمى من المعادلة الإقليمية طوال القسم الأعظم من العقدين الماضيين، عندما فرضت إسرائيل حصاراً جوياً وبحرياً وبرياً على غزة، لكن الهجوم الذي شنته حماس في السابع من أكتوبر/تشرين الأول فاجأ إسرائيل وقسم كبير من العالم، وكشف عن العيوب الهائلة في هذا الافتراض.
 
والحقيقة أن الحرب أعادت الآن ضبط القضية الفلسطينية برمتها، ووضعت غزة وشعبها في مركز أي مفاوضات إسرائيلية فلسطينية في المستقبل.
 
لكن البروز الجديد المفاجئ لغزة لا ينبغي أن يشكل مفاجأة فتاريخ هذه المنطقة الذي يمتد لأربعة آلاف عام، الذي يتذكره القليل منا منه اليوم، يوضح أن السنوات الستة عشر الماضية كانت حالة شاذة؛ فقد لعب قطاع غزة دائمًا دورًا محوريًا في الديناميكيات السياسية في المنطقة، فضلاً عن صراعاته القديمة حول الدين والقوة العسكرية. 
 
كانت غزة أيضًا في قلب القومية الفلسطينية منذ فترة الانتداب البريطاني في أوائل القرن العشرين، ولذلك، فمن غير المرجح ان تنجح أي محاولة لإعادة بناء غزة بعد هذه الحرب المدمرة إذا لم تأخذ في الاعتبار الموقع الاستراتيجي للقطاع في المنطقة، كما لا يمكن تحقيق نزع السلاح في هذا الجيب إلا من خلال رفع الحصار الكارثي وطرح رؤية إيجابية لتنميته اقتصاديا.
 
يتعين على القوى الدولية أن تعمل معا للسماح لغزة باستعادة دورها التاريخي كواحة مزدهرة ومفترق طرق مزدهر، يربط البحر الأبيض المتوسط ​​بشمال أفريقيا والمشرق بدلا من محاولة عزل القطاع أو عزله سياسيا، كما يتعين على الولايات المتحدة وحلفائها أن يدركوا أن غزة سوف تحتاج إلى أن يكون لها دور مركزي في أي حل دائم للنضال الفلسطيني.
 
جوهرة التاج
 
لقد تم الاحتفاء بواحة غزة، أو وادي غزة، لعدة قرون بسبب خصوبة نباتاتها وبرودة ظلها في تناقض صارخ مع واقع الفقر الحالي، والنقص الشديد في المياه، والبؤس الإنساني الذي لا ينتهي،لكن قيمة القطاع الاستراتيجية كانت على نفس القدر من الأهمية، لأن غزة تربط مصر ببلاد الشام، ويعني موقعها المتميز أن الأرض كانت محل نزاع منذ القرن السابع عشر قبل الميلاد، عندما غزا الهكسوس دلتا النيل من غزة، لكنهم هزموا وصدوا في وقت لاحق من قبل سلالة الفراعنة المتمركزة في طيبة.
 
اضطر الفراعنة في نهاية المطاف، إلى التخلي عن غزة لصالح شعوب البحر - المعروفين بالفلسطينيين - الذين أنشأوا في القرن الثاني عشر قبل الميلاد اتحادًا من خمس مدن ضمت غزة والمدن الإسرائيلية الحالية عسقلان وأشدود وعقرون وجات.
 
اندلعت توترات عنيفة بشأن الوصول إلى البحر بين الفلسطينيين والقبائل اليهودية المجاورة ثم الممالك.
 
ومن هنا تأتي القصة التوراتية لشمشون، المحارب الإسرائيلي الأسطوري الذي انطلق لهزيمة الفلسطينيين: نظرًا لأن قوته الهائلة تعتمد على عدم قص شعره مطلقًا، فإنه يصبح عاجزًا عندما يقع تحت سحر دليلة، التي تحلق رأسه أثناء نومه، وينتهي به الأمر في سجن غزة، لكن أثناء وجوده في الأسر، ينمو شعره مرة أخرى، ويستعيد قوته، وعندما تم سحبه أخيرًا من زنزانته ليتم السخرية منه في معبد فلسطيني، يقوم بإسقاط أعمدة المبنى، وقتل نفسه مع أعدائه.
 
وعلى نفس المنوال، بعد قتل جالوت الفلسطيني، بدأ داود الشاب جهوده لتوحيد مملكتي يهوذا وإسرائيل.
 
في العصور القديمة اللاحقة، جعلت جغرافية غزة المرغوبة منها ساحة معركة حاسمة بين بعض أعظم القوى المهيمنة في ذلك العصر، فبعد مرورها بأيدي الآشوريين والبابليين، استولت فارس كورش الكبير على غزة في منتصف القرن السادس، لكن الصدمة الحقيقية جاءت بعد قرنين من الزمان، في عام 332 قبل الميلاد، عندما شن الإسكندر الأكبر المقدوني حصارا مدمرا على غزة وصل إلى مائة يوم وهو في طريقه إلى مصر.
 
خلال هذه الحرب الشنيعة، قام الجانبان بتحصين مواقعهما من خلال حفر العديد من الأنفاق تحت تربة غزة الفضفاضة - مما يوفر سابقة تاريخية لاستراتيجية حماس ضد إسرائيل اليوم، وفي النهاية، انتصرت قوات الإسكندر ولكن بتكلفة باهظة على جميع الأطراف.
 
أصيب الإسكندر أثناء الحصار وانتقم بشكل رهيب من سكان غزة المهزومين بعد ان ذبح الكثير من السكان الذكور، وتم استعباد النساء والأطفال.لكن أهمية غزة امتدت إلى ما هو أبعد من قيمتها العسكرية.
 
فبعد أن أصبحت دولة مدينة خلال الفترة الهلنستية، أصبحت فيما بعد مركزًا دينيًا رئيسيًا في القرون الأولى للمسيحية الأولى ثم الإسلام، وفي عام 407 م، تمكن فرفوريوس، أسقف غزة المسيحي، من بناء كنيسة على أنقاض المعبد الوثني الرئيسي لزيوس في غزة.
 
كما أسس قديسًا محليًا آخر يدعى هيلاريون (291-371) وكان اكثر شهرة من سابقه مجتمعًا رهبانيًا مهمًا في غزة وأصبح قبره موقعًا للحج يتمتع بشعبية كبيرة.
 
كما توفي أحد أجداد النبي محمد في غزة حوالي عام 525 وهو تاجر من مكة يدعى هاشم بن عبد مناف، ونتيجة لذلك، بعد أن احتلت الجيوش الإسلامية المنطقة في القرن السابع، أشار المسلمون إليها باحترام باسم "غزة هاشم" (في القرن التاسع عشر، بنى العثمانيون مسجد هاشم في مدينة غزة لتمييز موقع ضريح هاشم).
 
بين فترة العصور الوسطى والقرن التاسع عشر، استمرت غزة في العمل كجائزة مرموقة في صراعات القوى الكبرى في المنطقة، وتأرجحت السيطرة عليها بين الصليبيين المسيحيين والمدافعين المسلمين في القرن الثاني عشر وبين جنرالات المماليك والغزاة المغول في القرن الثالث عشر.

دخلت غزة خلال قرنين ونصف القرن من حكم المماليك، الحكام الأتراك الذين سيطروا على مصر وسوريا في العصور الوسطى نوعًا من العصر الذهبي، حيث تمتعت المنطقة بالعديد من المساجد والمكتبات والقصور، وازدهرت بفضل طرق التجارة الساحلية المتجددة.
 
كما تم إنشاء خان محصن، وهو نوع من مركز التجارة والتسوق، في الطرف الجنوبي من غزة في عام 1387، وسرعان ما تطور ليصبح مدينة خاصة به، تدعى خان يونس.
 
لقد استوعبت الإمبراطورية العثمانية غزة في عام 1517، ثم احتلها جيش نابليون بونابرت لفترة وجيزة، بعد غزو مصر في عام 1798، وفي معظم هذه الفترة، اشتهرت غزة بمناخها المثمر، وسكانها الأصليين المتجانسين، ونوعية الحياة العالية.
 
وفي عام 1659، وصف أحد الرحالة الفرنسيين غزة بأنها "مكان بهيج وممتع للغاية" وبعد قرنين من الزمان، تعجب كاتب آخر، وهو الكاتب الفرنسي بيير لوتي، من "حقول الشعير الشاسعة التي تكسوا المنطقة كلها باللون الأخضر".
 
عندما تم رسم الحدود في عام 1906 لفصل مصر التي كانت تحت السيطرة البريطانية عن فلسطين العثمانية، فأن هذه الحدود مرت عبر مدينة رفح لإنشاء منطقة تجارة حرة فعلية بين الإمبراطوريتين.
 
لكن خلال الحرب العالمية الأولى، كانت الحدود محل نزاع شرس من قبل القوات البريطانية والعثمانية؛ وبعد ثلاث محاولات، تمكن الجيش البريطاني أخيراً من اختراق الخطوط العثمانية في عام 1917، ودخل الجنرال إدموند اللنبي مدينة غزة المدمرة في التاسع من نوفمبر/تشرين الثاني، وهو نفس اليوم الذي أعلنت فيه حكومته وعد بلفور والتزامها بـ "إنشاء وطن قومي للشعب اليهودي في فلسطين"، وقد تم دمج هذا التأييد للبرنامج الصهيوني لاحقاً في التفويض الذي منحته عصبة الأمم لبريطانيا لإدارة فلسطين.
 
أصبحت غزة معقلًا للقومية الفلسطينية، على الرغم من أنها كانت واحدة من مناطق فلسطين الأقل استهدافًا من قبل الاستيطان الصهيوني، خاصة خلال الثورة العربية الكبرى 1936-1939، والتي انتفض فيها العرب الفلسطينيون ضد البريطانيين وقاتلوا من أجل إقامة دولة عربية مستقلة دون جدوى.
 
وبدلاً من ذلك، أقرت الأمم المتحدة في تشرين الثاني (نوفمبر) 1947، خطة التقسيم التي يتم بموجبها تقسيم فلسطين بين دولة عربية ودولة يهودية - وهو حل الدولتين الأصلي - مع انضمام غزة إلى الدولة العربية.
 
بذور الصراع
 
من الأهمية بمكان أن نذكر ان ما أصبح يعرف بقطاع غزة قد تشكل بفعل الصدمات المحورية التي شهدها العام 1948.
 
ففي البداية جاء فشل خطة التقسيم التي اقترحتها الأمم المتحدة، والتي، على الرغم من ترحيب القيادة الصهيونية بها، لقيت رفضاً قاطعاً من قبل القوميين الفلسطينيين والدول العربية، مما أدى إلى إطلاق العنان للصراع المسلح بين اليهود والعرب، وسرعان ما وصلت الموجات الأولى من اللاجئين العرب، ومعظمهم من منطقة يافا، إلى غزة.
 
اقترح البريطانيون، في توقع استباقي مؤلم للازمة الدولية الحالية، أن المنطقة سيكون لديها وصول أفضل إلى الإغاثة الإنسانية برا من القاهرة، ثم، في أعقاب إعلان الزعيم الصهيوني ديفيد بن غوريون عن قيام دولة إسرائيل في مايو/أيار 1948، هاجمت الدول العربية المجاورة غزة، مع تحرك عشرة آلاف جندي مصري إلى القطاع، لكن المصريين لم يصلوا أبدًا إلى أبعد من أشدود، على بعد حوالي 20 ميلاً شمال غزة، حيث تم صدهم سريعًا بعملية إسرائيلية جريئة.
 
بحلول يناير/كانون الثاني 1949، لم يكن الإسرائيليون قد هزموا الجيوش العربية فحسب، بل طردوا أيضًا حوالي 750 ألف فلسطيني من منازلهم، فيما أصبح يُعرف باسم "النكبة".
 
وأدت الهدنة الموقعة بين إسرائيل ومصر تحت رعاية الأمم المتحدة في فبراير من ذلك العام إلى إنشاء قطاع غزة، وهي منطقة تخضع للإدارة المصرية وتحددها خطوط وقف إطلاق النار في الشمال والشرق وبحدود عام 1906 مع مصر في الجنوب.
 
تحولت غزة إلى "شريط" من الأرض، محصور بالصحراء، ومعزول عما كان يعرف بفلسطين بعد قرون من لعب القطاع دور مفترق الطرق الاستراتيجي والمركز التجاري الحيوي للتجارة الإقليمية، كما أصبح السكان المحليون البالغ عددهم حوالي ثمانين ألف نسمة يعيشون في منطقة مكتظة بعد قدوم حوالي مائتي ألف لاجئ من جميع أنحاء فلسطين الذين وصفوا قطاع غزة آنذاك بأنه "سفينة نوح" الخاصة بهم.
 
لم تكن هناك بنية تحتية لاستقبال هؤلاء اللاجئين، وخلال شتاء 1948-1949 الأول، قدرت اللجنة الدولية للصليب الأحمر أن عشرة أطفال يموتون كل يوم بسبب البرد أو الجوع أو المرض، وقد اجبر اتساع صحراء سيناء الناجين على البقاء في الجيب.
 
في الواقع، كان 25% من السكان العرب في فلسطين الانتداب البريطاني محصورين الآن في قطاع غزة في 1% فقط من أراضيها السابقة، حيث استوعبت إسرائيل 77% من تلك الأراضي والمملكة الأردنية الهاشمية 22% أخرى، من خلال ضم القدس الشرقية والضفة الغربية لأراضي المملكة الهاشمية.
 
وبلغ حجم النكبة حدًا دفع الأمم المتحدة إلى إنشاء هيئة خاصة، هي هيئة الأمم المتحدة لإغاثة اللاجئين الفلسطينيين (UNRPR)، للتعامل مع الأزمة الإنسانية.
 
زرعت الاضطرابات الرهيبة أيضًا بذور صراع جديد بالنسبة للفلسطينيين، سيستمر حتى يومنا هذا.
 
في ديسمبر/كانون الأول 1948، أقرت الجمعية العامة للأمم المتحدة نفسها، التي وافقت على خطة التقسيم الفاشلة قبل عام، "حق العودة" للاجئين الفلسطينيين - سواء عن طريق العودة الفعلية إلى الوطن أو مجرد التعويض المالي - وهو المفهوم الذي كان محوريا في التطلعات الفلسطينية منذ ذلك الحين، وكان له معنى خاص في غزة، نظراً للعدد غير العادي من اللاجئين هناك، وبما أن مصر لم يكن لديها أي مطالبة إقليمية في القطاع، فقد أصبح الجيب حاضنة طبيعية للقومية الفلسطينية.
 
وباعتباره أول زعيم لإسرائيل، فقد فهم بن غوريون التهديد الطويل الأمد الذي تفرضه غزة على أي من مواطنيه الإسرائيليين تقريباً، وفي مؤتمر السلام الذي عقدته الأمم المتحدة في لوزان عام 1949، اقترح ضم قطاع غزة والسماح لـ 100 ألف لاجئ فلسطيني بالعيش في منازلهم السابقة في إسرائيل، لكن الخطة أثارت ضجة في كل من إسرائيل، حيث كانت هناك معارضة هائلة لأي عودة للفلسطينيين، ومصر، حيث أصبح الدفاع عن غزة قضية وطنية، ونتيجة لذلك، اعترفت الأمم المتحدة بعجزها عن تسوية النزاع العربي الإسرائيلي، فقامت بإنهاء مؤتمر لوزان وإنشاء مؤسسات "مؤقتة" مفتوحة العضوية بدلاً من ذلك، وهكذا، تم تحويل UNRPR إلى وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين (الأونروا)، والتي أصبحت منذ ذلك الحين صاحب العمل الرئيسي والمزود الرئيسي للخدمات الاجتماعية في غزة، وتم إنشاء ثمانية مخيمات للاجئين في القطاع، أكبرها مخيم جباليا في أقصى الشمال، ومخيم الشاطئ على شاطئ مدينة غزة - وهي نفس المخيمات التي تم تدميرها الآن بسبب الهجوم الإسرائيلي.
 
في الواقع، استغرق الأمر سنوات عدة قبل أن يتحول لاجئو غزة إلى النشاط العسكري.
 
في البداية، تمكنت كل من إسرائيل ومصر من تضييق الخناق على ما يسمى بالفدائيين، وهم مقاتلو حرب العصابات الذين تم اختيارهم بشكل رئيسي من المخيمات في غزة والذين سعوا إلى التسلل إلى إسرائيل، ولكن بحلول منتصف الخمسينيات من القرن الماضي، بدأ الزعيم المصري جمال عبد الناصر في استخدام غزة لشن غارات بالوكالة ضد إسرائيل، وبالتالي بدأت دورة الهجمات والأعمال الانتقامية المرتبطة ارتباطًا وثيقًا بالمنطقة اليوم.
 
في أبريل/نيسان 1956، قُتل ضابط أمن في أحد الكيبوتسات القريبة من القطاع الفلسطيني على يد متسللين من غزة، مما دفع موشيه ديان، رئيس الأركان الإسرائيلي، إلى تحذير الإسرائيليين من المظالم التي لم يتم حلها والتي تغلي في المنطقة: "دعونا لا نلقي باللوم على القتلة هذه المرة" مضيفًا  "منذ ثماني سنوات، وهم يجلسون في مخيمات اللاجئين في غزة، وأمام أعينهم حولنا أراضيهم وقراهم، حيث كانوا يسكنون مع آبائهم، إلى وطننا".
 
أصبح القضاء على وجود الفدائيين في غزة أولوية قصوى بالنسبة لبن غوريون وديان، وفي نوفمبر 1956، سيطر الجيش الإسرائيلي على القطاع كجزء من هجوم منسق مع فرنسا والمملكة المتحدة ضد مصر الناصرية.
 
خلال أربعة أشهر من الاحتلال، قتلت القوات الإسرائيلية حوالي ألف فلسطيني (بما في ذلك مجزرتين وثقتهما الأونروا تم فيهما إعدام 275 شخصًا على الأقل في خان يونس و111 في رفح)، وكانت الصدمة عميقة للغاية لدرجة أنه عندما انسحب الإسرائيليون تحت ضغط الولايات المتحدة، طالب السكان الفلسطينيون بعودة الحكم المصري بدلاً من وصاية الأمم المتحدة التي تم تصورها في البداية.
 
لقد ضاعت بسبب ذلك فرصة تاريخية لبناء كيان فلسطيني يمكن أن يتطور إلى دولة، وفي هذه الأثناء، فر الفدائيون إلى الكويت، حيث أسسوا عام 1959 حركة التحرير الفلسطينية، المعروفة باسم فتح، بقيادة ياسر عرفات.
 
بدأ الاحتلال الإسرائيلي الثاني لغزة في يونيو/حزيران 1967، بعد الانتصار الإسرائيلي في حرب الأيام الستة، وقد قام ديان، الذي كان يشغل آنذاك منصب وزير الدفاع، وكان رئيس الوزراء المستقبلي إسحاق رابين رئيساً لمكتبه، بمحو أي أثر للحدود بين غزة وإسرائيل، مراهناً على أن جاذبية سوق العمل الإسرائيلية من شأنها أن تذيب القومية الفلسطينية، ولكن السكان المحليين ظلوا يؤيدون حرب عصابات منخفضة الحدة لمدة أربع سنوات على الرغم من ذلك، إلى أن قام أرييل شارون، القائد الإسرائيلي للمنطقة (الذي أصبح فيما بعد رئيساً للوزراء أيضاً)، بهدم أجزاء من مخيمات اللاجئين بالجرافات وكسر ظهر التمرد.
 
واليوم يستخدم الجيش الإسرائيلي نفس الطريقة التي استخدمها شارون للتمييز بين ما يسمى "المناطق الآمنة" ومناطق القتال في الهجوم الإسرائيلي المستمر على القطاع.
 
صناعة الوحش

لقد أدرك قادة إسرائيل الأكثر رؤية منذ فترة طويلة أن مشكلة اللاجئين في غزة لن تنتهي، وفي عام 1974 - بعد بن غوريون - اقترح شارون إعادة توطين عشرات الآلاف من اللاجئين الفلسطينيين في إسرائيل لمعالجة المظالم الفلسطينية، على الأقل رمزياً ولكن تم رفض الفكرة مرة أخرى، وبدلاً من ذلك، بدأت إسرائيل في تأليب الإخوان المسلمين في غزة، تحت زعامة الشيخ ياسين، ضد القوميين المنتمين إلى التيار السائد في منظمة التحرير الفلسطينية والذين كانت فتح تسيطر عليهم الآن.
 
ومن الجدير بالذكر أن الحاكم العسكري الإسرائيلي حضر افتتاح مسجد ياسين في غزة عام 1973، وبعد ست سنوات، سمحت إسرائيل للإسلاميين بتلقي أموال أجنبية بينما قمعت أي علاقة قائمة مع منظمة التحرير الفلسطينية.
 
بدا أن سياسة فرق تسد كانت ناجحة بالنسبة لإسرائيل في غزة لبعض الوقت، مع اندلاع الاشتباكات بين القوميين والإسلاميين في عام 1980، ولكن بحلول أواخر الثمانينيات، كان جيل كامل قد نشأ تحت الضغط المستمر من المستوطنين الإسرائيليين، الذين، على الرغم من أن عددهم لا يتجاوز الآلاف، قادوا جيش الاحتلال إلى استبعاد سكان غزة المكتظين بالفعل من ربع القطاع.
 
بدأت الانتفاضة الأولى في مخيم جباليا للاجئين في غزة، في كانون الأول (ديسمبر) 1987، وسرعان ما انتشرت منه إلى القطاع بأكمله ثم إلى الضفة الغربية.
 
لقد تحدى الشباب الفلسطيني الجيش الإسرائيلي بالحجارة والمقاليع، لكنهم أجبروا عرفات ومنظمة التحرير الفلسطينية أيضًا على تأييد حل الدولتين، ورداً على ذلك، حول ياسين منظمته إلى حماس (وهو اختصار لعبارة "حركة المقاومة الإسلامية") متهماً منظمة التحرير الفلسطينية بخيانة الواجب "المقدس" المتمثل في "تحرير فلسطين"، ومرة أخرى، لعبت المخابرات الإسرائيلية على هذه التوترات لإضعاف الانتفاضة وانتظرت حتى مايو 1989 لسجن ياسين، لكن الانتفاضة الشعبية استمرت حتى أدى دعم السلام في إسرائيل إلى وصول رابين إلى منصب رئيس الوزراء في يوليو 1992.
 
كانت أولوية رابين في بداية المحادثات السرية مع منظمة التحرير الفلسطينية، فك الارتباط بين إسرائيل وقطاع غزة مع الاستمرار في حماية المستوطنين الإسرائيليين هناك، وأنشأت اتفاقيات أوسلو، الموقعة في سبتمبر/أيلول 1993، سلطة فلسطينية تتولى مسؤولية الأراضي التي تخليها إسرائيل وانتقل عرفات إلى غزة بعد عشرة أشهر، معتقداً أنه قام بنفسه بتحرير المنطقة، أو على الأقل الجزء الخاضع للسيطرة الفلسطينية، في حين كان السكان المحليون مقتنعين بأنهم دفعوا أغلى ثمن لمثل هذا التحرير، وقد خدم سوء الفهم هذا، إلى جانب الفساد المستشري في السلطة الفلسطينية، بشكل مباشر في أيدي حماس.
 
أدت عملية استخباراتية إسرائيلية فاشلة ضد زعيم حماس خالد مشعل في الأردن في عام 1997، إلى اعتقال عملاء إسرائيليين واضطر رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو لتأمين إطلاق سراحهم، إلى تسليم ياسين والذي كان يقضي حكماً بالسجن المؤبد في إسرائيل وعاد منتصراً إلى غزة.
 
وكانت عدوانية حماس المتنامية وأزمة عملية السلام سبباً في اندلاع الانتفاضة الثانية في سبتمبر/أيلول 2000 وساعدت الموجة الصادمة من الهجمات الانتحارية في وصول شارون إلى السلطة بعد فوز ساحق في فبراير/شباط 2001.
 
اعتقد شارون بعد حصار عرفات في رام الله وقتل ياسين في غزة، أن انتصاره لن يكتمل إلا بعد خروج إسرائيل من قطاع غزة، وكان الهدف من هذا الانسحاب الأحادي الجانب تأمين خط دفاع إسرائيلي جديد حول القطاع، وتم تنفيذه دون أي تشاور مع محمود عباس، الذي خلف عرفات في رئاسة منظمة التحرير الفلسطينية والسلطة الفلسطينية.
 
إلا أن مقامرة شارون دمرت خطة تنمية غزة الطموحة التي بلغت قيمتها ثلاثة مليارات دولار، والتي وضعها جيمس ولفنسون، المبعوث الخاص للجنة الرباعية للشرق الأوسط (روسيا، والولايات المتحدة، والاتحاد الأوروبي، والأمم المتحدة).
 
ومن الطبيعي أن تزعم حماس أن الانسحاب الإسرائيلي كان بمثابة انتصار لها، ثم واصلت الفوز في الانتخابات البرلمانية التي تمت برعاية دولية بعد بضعة أشهر، في يناير/كانون الثاني 2006، وفي ظل الحرج إزاء النتيجة غير المتوقعة، قررت الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي مقاطعة حماس إلى أن تعترف بإسرائيل وتنبذ العنف، ولكن بحلول العام التالي، تمكنت حركة حماس التي لم يتم إصلاحها، بعد أن قتلت المئات من منافسيها، من السيطرة الكاملة على القطاع، الذي تم وضعه بعد ذلك تحت الحصار الإسرائيلي الكامل (بالتعاون مع مصر، التي تسيطر على معبر رفح في الجنوب).
 
كانت السياسات الإسرائيلية سبباً في وصول حماس إلى السلطة في غزة، وهي السلطة التي عززها الحصار منذ ذلك الحين.
 
هل هناك طريق إلى السلام؟
 
الحرب الحالية بين إسرائيل وحماس هي أيضًا نتيجة لإنكار الهوية التاريخية الغنية لغزة وهو سياسة متوارثة منذ عام 2006.
 
تصور القادة الإسرائيليون أنهم توصلوا إلى الصيغة المثالية لتهميش غزة بالكامل: حيث يمكن استبعاد أكثر من مليوني فلسطيني من المعادلة الديموغرافية بين السكان اليهود والعرب في إسرائيل، والقدس الشرقية، والضفة الغربية.
 
كما قاومت السلطة الفلسطينية، التي أعماها نزاعها المرير مع حماس، أي جهد لتخفيف الحصار على غزة، وهو النهج الذي أدى إلى تقويض شرعية السلطة الفلسطينية المتضائلة بالفعل، وفي الوقت نفسه، قضى انقسام القيادة الفلسطينية على أي جهد لإحياء عملية السلام وسمح للمستوطنات الإسرائيلية بالتوسع بشكل مطرد في الضفة الغربية.
 
انخرطت إسرائيل من وقت لآخر في ما وصفه خبراء مكافحة الإرهاب بحروب "جز العشب" على غزة، مع نسبة مستدامة من الخسائر العسكرية إلى حد كبير، من وجهة نظرها، على الرغم من أن القتلى الفلسطينيين كانوا في الغالب من المدنيين حيث قُتل 13 جنديًا إسرائيليًا، و1417 فلسطينيًا في عام 2009 وكانت النسبة ستة إسرائيليين مقابل 166 فلسطينيا في عام 2012، وكان عدد الإسرائيليين 72 مقابل 2251 فلسطينيًا في عام 2014، و15 مقابل 256 في عام 2021 وفي الوقت نفسه، كان الاتحاد الأوروبي ودول الخليج دائمًا على استعداد لدفع فاتورة إعادة بناء ما تبقى في القطاع.
 
لكن فكرة إمكانية تجاهل الواقع الإنساني الرهيب في غزة كانت مجرد وهم.
 
في السابع من أكتوبر 2023، انهار الوضع الراهن في موجة القتل المروعة التي قامت بها حماس، والعنف غير المسبوق الذي أطلقته إسرائيل على غزة منذ ذلك الحين، والذي قُتل فيه أكثر من 21 ألف فلسطيني حتى الآن.
 
وفي إعادة قاسية لذكريات النكبة، تم اقتلاع الغالبية العظمى من سكان القطاع البالغ عددهم 2.3 مليون نسمة من ديارهم وهو امر أرسل موجات صادمة عبر الشرق الأوسط وخارجه.
 
إن هدف نتنياهو المعلن من الحرب - "القضاء على" حماس - يكرر أهداف بن غوريون في عام 1956، ولكن على نطاق أوسع بكثير وتحت مراقبة العالم أجمع.
 
وحتى لو افترضنا أن مثل هذا الهدف يمكن تحقيقه، فلن يكون هناك ناصر لفرض النظام في القطاع بعد الانسحاب الإسرائيلي، لذا يبدو أن إسرائيل محكوم عليها بأن يلاحقها نفس "قطاع غزة" الذي أنشأته في عام 1948، مع استمرار دورة الحروب والاحتلال التي لن تؤدي إلا إلى المزيد من النشاط الفلسطيني الراديكالي.
 
ولكي يستمتع الإسرائيليون والفلسطينيون في نهاية المطاف بالسلام والأمن اللذين يستحقانهما بشدة، يتعين على غزة أن تعود مرة أخرى إلى جذورها باعتبارها مفترق الطرق المزدهر الذي كانت عليه لقرون من الزمن.
 
في البداية، يجب أن تنتهي سياسة الحصار والحصار، مما يسمح للإقليم بإعادة الاتصال في النهاية ببقية المنطقة، وفي الوقت نفسه، وبالاعتماد على الدور التاريخي الذي تلعبه غزة باعتبارها مركزاً تجارياً رئيسياً، فلابد من وضع استراتيجية منسقة لإعادة التنمية، على غرار خطة ولفنسون التي طرحها في العام 2005، من أجل السماح لغزة بالانتقال من المساعدات الدولية إلى الاقتصاد المولد ذاتياً، وهذا هو المفتاح لجعل المنطقة منزوعة السلاح تحت إشراف دولي وفي إطار حل الدولتين.
 
سوف يكون من الصعب للغاية تحقيق أي من هذا بطبيعة الحال، وخاصة بعد حرب شرسة تهدد بنشوء جيل جديد من النضال الفلسطيني، لكن لم تعد هناك حلول سهلة، وقد تكون هذه الاستراتيجية هي السبيل الوحيد للخروج من دوامة القتل الحالية.
 
لقد أصبحت غزة مرة أخرى وكما كانت الحال طوال قرون، في قلب حرب كبرى، ولكنها أصبحت أيضاً مفتاح السلام والازدهار في الشرق الأوسط.
 
*مقال رأي لـ"جان بيير فيليو " هو أستاذ دراسات الشرق الأوسط في معهد العلوم السياسية في باريس، وهو مؤلف كتاب غزة: التاريخ والشرق الأوسط- المصدر: مجلة فورين افيرز الأميركية