"إن انتصار إسرائيل النهائي سيتحقق عن طريق الهجرة اليهودية الكثيفة، وإن بقاءها يتوقف فقط على توفر عامل واحد؛ هو الهجرة الواسعة إلى إسرائيل"، تصريح خطير لبن غوريون، أول رئيس وزراء لإسرائيل (1948ـ 1954).
وتكمن خطورة هذا التصريح في أن الوضع في عهد رئيس الوزراء الإسرائيلي الحالي بنيامين نتنياهو، يواجه هجرة عكسية واسعة لنحو مليون يهودي، منذ اندلاع الحرب على غزة في 7 أكتوبر/تشرين الأول الماضي، ما يهدد "وجود إسرائيل"، على حسب تحذير مؤسسها.
في الوقت الذي تسعى إسرائيل جاهدة لتهجير 2.3 مليون فلسطيني من قطاع غزة إلى صحراء سيناء المصرية، تواجه بالمقابل تهديدا وجوديا لكيانها بفعل تسارع الهجرة اليهودية العكسية من أراضي فلسطين التاريخية، منذ إطلاق حركة حماس عملية طوفان الأقصى في 7 أكتوبر/تشرين الأول.
فالحرب الإسرائيلية على غزة تخفي بين طياتها "حربا ديمغرافية" حول من يكون له التفوق البشري والعددي خاصة في ظل الحروب التي لا تتوقف إلا لتشتعل بين الطرفين.
ففي ظل النقص العددي ليهود إسرائيل، تضطر تل أبيب للاعتماد على جنود الاحتياط بنسبة 65 بالمئة، إلا أن ذلك يكلفها على الصعيد الاقتصادي أموالا طائلة، ما يجعلها تفضل الحروب القصيرة، حتى تستطيع تسريحهم للعودة إلى مهنهم المدنية، وتحريك عجلة الاقتصاد ثانية.
إسرائيل تنزف ديمغرافيا
نحو مليون شخص غادروا إسرائيل إلى الخارج في الأشهر الأخيرة بحسب إعلام عبري، وهو ما يفوق بكثير عدد من تجلبهم الوكالة اليهودية إلى داخل إسرائيل، ناهيك عن النازحين من مستوطنات غلاف غزة، وفي الشمال على حدود لبنان، حيث يخشى سكان هذه المستوطنات من تعرضهم لصواريخ المقاومة الفلسطينية في غزة أو "حزب الله" في جنوب لبنان.
فبعد نحو 70 يوما من الحرب على غزة، مازال الجيش الإسرائيلي عاجزا عن وقف إطلاق الصواريخ من القطاع ومن جنوب لبنان، وهو ما يجعل النازحين الإسرائيليين مترددين في العودة إلى منازلهم حتى بعد انتهاء الحرب إن لم تتوفر لهم "ضمانات أمنية"، كإنشاء مناطق عازلة، وإلا سيضطر جزء منهم إلى الهجرة العكسية نحو دول أخرى أكثر أمانا.
فوق ما نقلته صحيفة "زمان إسرائيل"، عن سلطة السكان والهجرة الإسرائيلية (حكومية) فإنه منذ بداية الحرب وإلى غاية نهاية نوفمبر/تشرين الثاني، غادر حوالي 370 ألف إسرائيلي البلاد، يضاف إليهم 600 ألف سافروا إلى الخارج خلال العطلات وبقوا هناك حتى 7 أكتوبر، ليصبح المجموع نحو 970 ألفا.
من بين الفئات التي سافرت للخارج ورفضت العودة؛ شباب تم استدعاؤهم للتجنيد والمشاركة في حرب غزة لكنهم تخلفوا وتواجههم عقوبات، خاصة في ظل ارتفاع معدل التخلف عن التجنيد.
ويؤكد هذا الرقم الباحث المصري في الشؤون الإسرائيلية الدكتور أحمد فؤاد أنور، في حديث مع الكاتب الصحفي سيد جبيل، على قناته على اليوتيوب (نعرف).
ويعتبر الدكتور أنور، أستاذ العبري الحديث بجامعة الإسكندرية، أن الهجرة العكسية من إسرائيل تفوق مليون شخص، غادروا البلاد "بلا رجعة"، منذ بداية الحرب، استنادا إلى تقديرات باحثين مصريين حللوا سجلات الطائرات المغادرة لمطار بن غوريون في تل أبيب.
ووفقا لموقع "فلايت رادار 24"، فإن معدل الرحلات المغادرة لمطار بن غوريون بلغ 120 رحلة يوميا، وهو المعدل الأكبر المسجل في المطار على مدى الأشهر والسنوات الأخير، بمعدل 24 ألف مسافر يوميا، وفق المصدر الذي استند إليه أنور.
وإذا أضيف للرحلات المغادرة من مطار بن غوريون، رحلات مطاري إيلات (جنوب) وحيفا (شمال)، والمغادرين عن طريق البحر من ميناءي حيفا ويافا (وسط)، فإن المجموع يصبح نحو 40 ألف مسافر مغادر يوميا.
وبناء على هذه التقديرات، يعتبر المصدر أن "رقم مليون من الهجرة العكسية في هذه الفترة (11 نوفمبر ـ 11 ديسمبر) منطقي جدا".
وهذه الأرقام أكبر قليلا من الأرقام الرسمية الإسرائيلية التي عادة ما تخضع للرقابة العسكرية زمن الحرب، لكن في جميع الحالات سواء كان الرقم 370 ألفا أو 970 ألفا أو 1.2 مليون (خلال شهر) أو 2.8 مليون (في 70 يوما) من الهجرة العكسية، فإنها كلها أرقام ضخمة في بلد لا يتجاوز عدد سكانه اليهود 7.145 ملايين نسمة، وفق دائرة الإحصاء المركزية الإسرائيلية.
وإذا أخذنا رقم مليون نسمة كمتوسط هجرة عكسية، فإن ذلك يمثل 14 بالمئة من يهود إسرائيل، وهي نسبة معتبرة بالنسبة لبلد يقوم على جلب اليهود من الشتات وتفريغ فلسطين من سكانها الأصليين، وفق الشعار اليهودي "شعب بلا أرض لأرض بلا شعب".
لكن الحرب على غزة أدت إلى نتائج عكسية، فبدل تهجير وإبادة سكان القطاع، فإن إسرائيل تعاني من نزيف الهجرة العكسية، وكلما طالت الحرب، كانت آثارها طويلة الأمد كارثية عليها، وهذا أحد أوجه "الهزيمة الاستراتيجية" التي حذر وزير الدفاع الأمريكي لويد أوستن، قادة تل أبيب منها.
أزمة عمالة وعصيان جنود
تؤثر الهجرة العكسية على قطاعين رئيسيين في إسرائيل، أولهما نقص العمالة في القطاع الاقتصادي، والثاني متعلق بالقطاع العسكري الذي يعاني من رفض الالتحاق بالجيش، لأسباب مختلفة.
الحرب على غزة حرمت إسرائيل من استخدام اليد العاملة الفلسطينية في الضفة الغربية وقطاع غزة، والهجرة العكسية فاقمت أزمة الحاجة إلى عمالة في مختلف الأنشطة الصناعية والزراعية والخدمات، ناهيك عن استدعاء الجيش الإسرائيلي 360 ألفا من جنود الاحتياط من إجمالي 465 ألفا، ما يستنزف العمالة ويضغط بشدة على مختلف القطاعات الاقتصادية كلما طالت الحرب أكثر.
هذا الوضع دفع إسرائيل لتسريح جزء من الاحتياط لتخفيف الضغط على بعض القطاعات الاقتصادية، وأيضا تعويض العمالة العربية بأيدي عاملة من الهند وسيريلانكا والصين.
لكن الاستغناء عن العمالة الفلسطينية له ثمنه، لأن إسرائيل ستضطر لجلب عمالة من دول أخرى بمرتبات أعلى ومزايا أفضل، وهو ما سيرفع من تكاليف المرتبات وأسعار السلع الإسرائيلية ما يجعلها أقل تنافسية مع نظيراتها الأجنبية.
كما ان الهجرة العكسية ستدفع إسرائيل للاعتماد على العمالة الأجنبية أيضا وبالتالي استمرار نزيف العملة الصعبة إلى الخارج بوتيرة أعلى.
وبالنسبة للقطاع العسكري، فالهجرة العكسية مرتبطة في جزء منها برفض التجنيد، أو ببساطة الفرار من الخدمة العسكرية.
ورغم أن هذه الظاهرة ليست جديدة، لكن حدتها زادت بسبب الحرب على غزة، والتيارات اليسارية في إسرائيل ترفض هذه الحرب، وشباب من التيار اليهودي الحريدي (المتدين) يرفض الخدمة العسكرية لأسباب دينية، وفئات ترى أنها حرب نتنياهو ولا تريد المشاركة فيها بسبب الانقسام الداخلي حول الإصلاحات القضائية، وأيضا بسبب هيمنة التيارات الدينية المتطرفة على الحياة السياسية والاجتماعية بما لا يتلاءم مع طريقة عيش الشباب العلماني المتحرر.
ووفقا لنتائج استطلاع للرأي أجرته الإذاعة الإسرائيلية الرسمية "كان"، ونشرته في مارس/ آذار الماضي، أي قبل نحو سبعة أشهر من هجوم طوفان الأقصى، فإن أكثر من 25 بالمئة من اليهود البالغين (فوق 18 عاما)، يفكرون بالهجرة من إسرائيل تفكيرا جدّيا.
هذا الوضع يقلق قادة إسرائيل، خاصة أن أي هزيمة لإسرائيل في غزة حاليا تعني تصاعد الهجرة العكسية، لكن وحده نصر حاسم وكبير على حماس، ما سيجعل إسرائيل أكثر جاذبية ليهود الشتات.
والتاريخ يقول إن الهجرة إلى إسرائيل ازدادت بعد انتصارها في حرب يونيو/حزيران 1967، لكن الهجرة العكسية ارتفعت بعد "هزيمتها" في حرب أكتوبر 1973.
وبحسب الكاتب الإسرائيلي أموس عوز، في كتابه "في أرض إسرائيل"، فإنه "لكي ترتفع الهجرة إلى إسرائيل يجب أن يحدث شيء هام يُوحد اليهود، إما انتصار عسكري مثل انتصار عام 1967، وإما كارثة هائلة تحدث ليهود الشتات.."
لكن إسرائيل تتلقى في غزة هزيمتين، الأولى استراتيجية بسبب قتلها الوحشي للأطفال والنساء والصحفيين.. والثانية تكتيكية بسبب الضربات التي توجهها المقاومة الفلسطينية يوميا للآليات والجنود الإسرائيليين، وصمودها (المقاومة) لأكثر من شهرين، رغم أن الأمر لم يتطلب سوى ساعات لاحتلال كامل قطاع غزة في حرب 1967.
والهزيمتان؛ الاستراتيجية والتكتيكية، ترفعان الهجرة العكسية، بينما تكثيف الدعاية بشأن تصاعد "معاداة السامية" في الغرب، فإنها لا تحقق نتائج تستحق الذكر أمام "طوفان الهجرة العكسية" لليهود من إسرائيل.
الأناضول