بعدما قسّم الاحتلال الإسرائيلي قطاع غزة وحاصر الجزء الشمالي من مدينة خانيونس الأكثر اكتظاظاً منذ بدء العدوان في السابع من أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، في ظل كثرة أعداد النازحين من محافظات مدينة غزة وشمال القطاع، نزح مجدداً عدد كبير من قاطني خانيونس، الذين هم أصلاً نازحون، إلى مدينة رفح جنوبي القطاع.
ولم يبق أمام سكان مدينة خانيونس سوى رفح، بعدما ألقى الاحتلال مناشير أجبرهم فيها على النزوح إلى رفح، وقد حدد خانيونس بالكامل منطقة قتال. وخلال اليومين الماضيين، دمر مناطق في غرب وشمال خانيونس والمحافظات الشرقية، لتزداد أعداد النازحين كل لحظة.
وأصبحت مدينة رفح الأكثر اكتظاظاً خلال العدوان الحالي، علماً أنها كانت تعيش أزمات إنسانية قبل بدء العدوان، وخصوصاً في عدد من مناطقها النائية حيث تنعدم الخدمات، مثل فرع مخيم الشابورة شمال غربي مخيم رفح الكبير. لكن في الوقت الحالي، فإن كل شوارع رفح باتت مليئة بالنازحين.
جوع وعطش
عدد من الغزيين النازحين جلسوا في شوارع رفح وأرصفتها بعدما امتلأت المدارس بنازحين سبقوهم إليها. حتى إن موظفي وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين "أونروا" عجزوا عن استقبال الأطفال والنساء. فسابقاً، كانت تعمد إلى استقبال الأطفال والنساء على أن يبقى الرجال خارجاً، إلا أنها عجزت عن ذلك، بالإضافة إلى كبار السن، وخصوصاً خلال اليومين الأخيرين، كما يقول إبراهيم رحيمان (40 عاماً).
ويوضح أنه منذ نزح من خانيونس قبل خمسة أيام، يناشد أي شخص في مدينة رفح للبحث عن غرفة في أي منزل لإيواء 15 فرداً، فوالدته مسنة وتعاني أمراضاً مزمنة. أطلق مناشدات عبر حسابه على "فيسبوك"، إلا أن الجميع يطلق مناشدات من دون استجابة.
يقول رحيمان لـ "العربي الجديد": "جلست ليلتين على الأرض وعجزت عن النوم. غفت والدتي التي كانت مرهقة وغير قادرة على الحراك. الناس في رفح الآن في الشارع ولم يبق لديهم أي أمل بسبب الجوع والعطش والتعب. أظن أن ما يحصل معنا يتجاوز مشاق نكبة 1948. حين نزحت عائلاتنا من منازلها وقراها ومدنها المهجرة، سارت بخطة تهجير وخيبة أمل واحتلال، لكننا لا نعرف مصيرنا".
يضيف رحيمان: "لدي 4 أبناء أكبرهم يبلغ من العمر 13 عاماً وأصغرهم 4 سنوات. جميعهم يشعر بالجوع. أنا أيضاً جائع. ألعب معهم ونحكي القصص حتى يتناسوا الجوع. ينامون في الشارع وأصنع لهم أحلاماً أن غزة ستصبح أفضل بعد انتهاء الحرب. لكن لا أعلم عندما نعود إلى حي تل الهوا، إذا كنا سنجد منزلنا قد دمّر أو لا".
من جهته، أطلق محمد العمري مناشدة ليتمكن أفراد عائلته من استخدام مرحاض فقط، وقد نزح أكثر من 35 فرداً منهم. ويوضح أن النساء والأطفال يبيتون في منزل مكتظ بالسكان فيما يبيت الرجال في الشارع. في مناشدته على فيسبوك، سأل عن منزل في مدينة رفح يستقبل النساء والأطفال لمدة ساعة كل يوم أو يومين من أجل استخدام المرحاض للاغتسال.
العمري (34 عاماً) يقول لـ "العربي الجديد": "لا أمل في إيجاد منزل للإيجار أو غرفة صغيرة حتى. قضيت ثلاثة أيام أبحث عن خيمة بأي سعر إلا أنني عجزت عن ذلك. ما من أقمشة في الشارع لتصميم خيمة. جميع الناس سبقوني لخطوة مماثلة، وصمموا خياماً في أكياس الطحين التي كانت توزع عليهم من المساعدات".
يضيف العمري: "الناس في مدارس الأونروا يصرخون لعدم توفر أية احتياجات. نحن منسيون سواء في الداخل أو الخارج. الجميع متخوف لأننا على بعد خطوة من الجانب المصري من رفح. ولا نريد التهجير حتى النفس الأخير، لكن كثيرين فقدوا أي أمل".
العيون على معبر رفح
تتوجه عيون الغزيين الموجودين في مدينة رفح إلى معبر رفح الوحيد المتبقي للغزيين، والذي يصلهم بالعالم الخارجي، بعدما دمر الاحتلال الإسرائيلي مطار غزة الدولي الذي أنشأته السلطة الفلسطينية في عهد الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات في ديسمبر/ كانون الأول عام 2001. ينظرون إلى المعبر بخوف من أن يكون تهجيرهم عبره قريباً بعدما وصلوا إلى المرحلة الأخيرة من النزوح.
من جهته، يقوم الاحتلال الإسرائيلي بقصف المناطق الشرقية لمدينة رفح بشكلٍ متواصل، وخصوصاً منطقة الشوكة شرق المدينة وأحياء مثل حي السلام الشرقي وحي الجنينة. كما نزح عدد منها إلى وسط منطقة البلد برفح ومنطقة المخيم ومنطقة تل السلطان غرب مدينة رفح، وبعض الغزيين أصبحوا يتواجدون في مناطق مكشوفة مثل مناطق التلال الرملية شمال المدينة والمناطق القريبة من السوافي الرملية.
يقيم جزء من عائلة أسامة حماد في منطقة جنوب حي تل السلطان غرب مدينة رفح بالقرب من مسجد. وقامت بعض العائلات باستخدام مرافق المسجد ووضع خيمة مخصصة للنساء والأطفال، بينما ينام الرجال على سجاد أخرجوه من المسجد، كما يوضح حماد الذي فقد عدد من أفراد العائلة في قصف إسرائيلي على مدينة دير البلح ومدينة خانيونس خلال الأيام الأخيرة، لافتاً إلى أنهم كانوا قد نزحوا من مدينة غزة وشمال القطاع.
يرفض حماد أي مخطط للتهجير، وهو على يقين أن الاحتلال الإسرائيلي يسعى لتهجير عدد من الغزيين إلى سيناء حتى يسهل عليه تنفيذ عمليات في مدن غزة وفصلها وإعادة إقامة المستوطنات الإسرائيلية التي كانت في قطاع غزة عام 2005. واستشهد شقيقه يحيى عام 2002 أثناء اشتراكه في تظاهرة ورمي الحجارة على مستوطنة دوغيت التي كانت مقامة شمال قطاع غزة.
يقول حماد لـ "العربي الجديد": "نزحنا خمس مرات خلال العدوان إلى مدارس تابعة للأونروا وأخرى تابعة لحكومة غزة، علماً أن الأخيرة قد تكون خطراً علينا كونها تابعة لحماس، الأمر الذي قد يجعلها تبرر قصفها أمام المجتمع الدولي". ويشير إلى أنه اضطر وعائلته إلى البقاء في الشارع.
رفح قلعة الجنوب
تكمن أهمية مدينة رفح التاريخية بالنسبة للفلسطينيين في كونها البوابة الجنوبية لفلسطين والتي تصل بين قارتيّ أفريقيا وآسيا، وحصلت على اهتمام تاريخي كبير، وخصوصاً لدى الحضارات القديمة، وعلى وجه التحديد الحضارة الفرعونية التي بنت فيها مواقع لها، وتم العثور على آثار فرعونية وكنعانية فيها.
ويعيش في مخيم رفح ما يزيد عن 133 ألفاً و326 لاجئاً مسجلين لدى الأونروا، وتضم 12 مدرسة تابعة للوكالة فقط، وباتت ممتلئة بالنازحين، بالإضافة إلى مدارس حكومية امتلأت هي الأخرى على الرغم من عدم تفضيل الغزيين البقاء فيها، لاعتقادهم أنهم أكثر أماناً في مدارس الأونروا.
وبحسب جهاز الإحصاء المركزي الفلسطيني، فإن عدد سكان مدينة رفح وصل إلى 260 ألفاً و117 حتى عام 2022، وذلك على مساحة حوال 50 كيلومتراً مربعاً. وبذلك، فإن أكثر من نصف السكان يعيشون في المخيم الذي تمدد مع مرور 75 عاماً، وصار فيه فروع للمخيم تحمل أسماء البلدات التي هجرة منها اللاجئون، وتضم أربع مناطق غربية وشرقية تتبع لأربع بلديات محلية.
حتى تاريخ 2 ديسمبر، كان ما يقرب من 1،2 مليون نازح يحتمون في 156 منشأة تابعة للأونروا في كافة محافظات قطاع غزة الخمس، بما في ذلك منطقة الشمال ومدينة غزة، وما يقرب من مليون نازح يقيمون في 99 منشأة في مناطق الوسط وخانيونس ورفح. ويبلغ متوسط عدد النازحين في ملاجئ الأونروا 10،326 نازحاً، وهو أكثر من أربعة أضعاف طاقتها الاستيعابية. وتمكنت الأونروا من التحقق من وقوع 117 حادثة في 85 منشأة من منشآت الأونروا منذ بداية الحرب. وقد أصيبت 30 منشأة بشكل مباشر فيما تعرضت 55 منشأة لأضرار جانبية. وبالإضافة إلى ذلك، تلقت الأونروا تقارير عن الاستخدام العسكري لمرافقها في خمس مناسبات على الأقل.
ونزح حوالي 1،9 مليون شخص (أو أكثر من 80 في المئة من السكان) في مختلف أنحاء قطاع غزة منذ يوم 7 أكتوبر، بينما تشير التقديرات الحالية للمكتب الإعلامي الحكومي في غزة إلى أن مدينة رفح لوحدها أصبح فيها أكثر من مليون مواطن ما بين مقيمين في المدينة نازحين خلال دخول اليوم الـ 60 على العدوان الاسرائيلي.
(العربي الجديد)