كثّف الاحتلال الإسرائيلي، خلال الأيام الأربعة الأخيرة، من عدوانه على مستشفيات قطاع غزة، بعدما فصل الشمال بالكامل بالإضافة إلى مدينة غزة عن وسط وجنوب القطاع. وعمد إلى تدمير جميع الطرقات المؤدية إلى المستشفيات من أجل تسهيل السيطرة عليها، على غرار ما فعل مع المستشفى الإندونيسي شمال القطاع ومستشفى القدس وسط مدينة غزة.
وخلال الساعات القليلة الماضية، استهدف الاحتلال قلب مستشفى الشفاء على مقربة من النازحين، ما أدى إلى إصابة العشرات وسقوط عدد من الشهداء. كان هؤلاء موجودين في منطقة خلفية من المستشفى، معتقدين أنّها بعيدة عن نقاط الاستهداف على أقسام العيادات الخارجية وغيرها، علماً أن الاحتلال الإسرائيلي كان قد ارتكب قبل أسبوع مجزرة عند البوابة الشرقية.
ومساء أمس، أغار الاحتلال على هدفين في مستشفى الشفاء، وهما الخيمة المخصصة للصحافيين، وما خلف قسم الولادة، الأمر الذي أدى إلى سقوط ستة شهداء وأكثر من عشر إصابات. كذلك أُصيب في منتصف ساحة المستشفى عددٌ من المواطنين الذين يتناوبون مع أفراد عائلاتهم للحصول على قسط من الراحة في الخيام الموجودة.
أحد الشهود على قصف ساحة مجمع الشفاء الطبي مساء الخميس هو عمر سمعان الذي كان على مقربة من خيمة الصحافيين الذين اختاروا هذا الموقع للحصول على لقطات ومعلومات من الطواقم الطبية، كما أنه قريب من المكان الذي تُدلى فيه بيانات وزارة الصحة والمكتب الإعلامي الحكومي. أصيب صديقه محمود الذي كان على مقربة منه، وقد رأى القذيفة وكيف وجِّهت إلى قلب ساحة المستشفى.
يقول سمعان لـ "العربي الجديد": "أصابت القذيفة عدداً من الشبان، وبُترت قدم أحدهم مباشرة. سيارات الإسعاف كانت في مهمة. حمل الشبان الموجودون في المكان المصابين ونقلوهم إلى غرف الطوارئ. والقصف صباح اليوم جعل المستشفى مكاناً غير آمن. ومنذ صباح الجمعة، نحاول إجراء اتصالات حول كيفية الذهاب إلى الجنوب. الأطفال ليلة أمس شاهدوا المصابين والدماء ولم يتوقفوا عن البكاء طوال الليل وحتى ساعات الصباح".
من جهته، يشير المدير العام للمستشفيات في قطاع غزة محمد زقوت، الموجود في مجمع الشفاء الطبي، إلى أن الطواقم الطبية استنفدت كل المحاولات لتمديد عمل الخدمات الصحية، وليس أمامها سوى ساعات معدودة لخروج مستشفيات غزة وشمال غزة عن الخدمة. وبسبب شدة القصف وقطع الطرقات الرئيسية في مدينة غزة لم تتمكن طواقم الإسعاف من نقل أي مريض إلى معبر رفح لتلقي العلاج في الخارج.
في الوقت نفسه، اعتقلت قوات الاحتلال الإسرائيلي اثنين من سائقي سيارات الإسعاف وهما في طريق العودة من الجنوب باتجاه شمال القطاع، على الرغم من التنسيق المسبق مع اللجنة الدولية للصليب الأحمر، الذي نسق التحرك مع الاحتلال الإسرائيلي لعودة سيارات الإسعاف.
ويشدد زقوت على أن الطواقم الطبية دخلت في مرحلة تأمين الحاجة الجسدية، في ظل عدم توفر المياه والغذاء والكهرباء في مستشفيات القطاع. وبذلك، حتى الطواقم الطبية أصبحت لا تلبّي حاجاتها من طعام ومأكل ومشرب وتعاني وضعاً كارثياً، كونها تعمل منذ أسابيع ضمن برنامج طوارئ. ويقول إن الدبابات الإسرائيلية لا تبعد كثيراً عن مجمع الشفاء الطبي، وتتمركز في محيط المستشفى الرنتيسي في حي النصر غرب مدينة غزة.
وبذلك، لا تستطيع إدارة المستشفيات التواصل مع المستشفى الأخير الذي يعمل داخل مجمع أربعة مستشفيات في حي النصر، أو الاستجابة لأي طوارئ في ظل وجود عدد من المرضى في المستشفى. ويقول إن "الاحتلال يشن حرباً على المستشفيات وعلى القطاع الطبي في غزة".
يضيف في حديثه لـ "العربي الجديد": "نواجه أصعب الأيام خلال العدوان الإسرائيلي. وأصبحنا غير قادرين على التواصل مع مستشفى القدس في مدينة غزة الذي يبعد عنا قرابة كيلومتر واحد، بسبب القصف الإسرائيلي المتواصل، وقد قطع الاحتلال جميع الطرق. بذلك، فإن حياة آلاف النازحين في خطر حقيقي وقد يتعرضون لمجزرة في أي وقت".
يعتبر حي النصر الموازي لشارع النصر أحد أهم الشوارع في قطاع غزة، ويضم مجمعاً للمستشفيات الطبية التخصصية الحكومية، مثل مستشفى النصر للأطفال ومستشفى العيون ومستشفى الرنتيسي التخصصي ومستشفى الصحة النفسية. صباحاً، سيطر الاحتلال الإسرائيلي على الحي بالكامل وتتمركز دباباته عند أطرافه، وقد بات محاصراً بالكامل.
ومساء أمس، أعلنت وزارة الصحة توقف خدمات مستشفى العيون الوحيد في قطاع غزة نتيجة نفاد الوقود وخروج مستشفى الصحة النفسية عن الخدمة، ما ستكون له تداعيات خطيرة. كما توقفت كل الخدمات في مستشفى الرنتيسي للأطفال والنصر باستثناء الحضانات. لكن صباحاً، توقف المستشفى عن استقبال المرضى بعد محاصرة الاحتلال له.
ويقول مدير مستشفى الرنتيسي التخصصي المحاصر، بكر قاعود، لـ "العربي الجديد": "نحن الآن في ظل حصار إسرائيلي خانق على حدود المستشفى، وطلب منا الإخلاء أمس عند الساعة العاشرة ليلاً، من خلال اتصال مباشر بالمستشفى".
يضيف: "طلبوا منا إخلاء مستشفى النصر للأطفال، وقد تم استهدافه وتدمير أجزاء منه. ومن غير المنطقي أن نهرب من موت إلى موت. هناك عائلات نازحة كثيرة، ومنهم أولياء أمور أطفال يعالجون داخل المستشفى الرنتيسي. وصباحاً، طلبوا بمكبرات الصوت الإخلاء من دون أي حماية دولية، ولا نعرف ماذا نفعل، والاتصال قد ينقطع في أي لحظة".
من جهته، أرسل المواطن إيهاب أبو عمرة، وهو أحد الموجودين داخل مستشفى الرنتيسي، لـ "العربي الجديد"، رسالة صوتية مفادها: "نحن لا نعرف أي نذهب. قد نخرج محملين. طفلي يعاني من سرطان الدم. لا أعرف أين أذهب. إن وجدت مستشفى يؤمن علاجاً لابني سأخرج رافعاً الراية البيضاء، ولو مشيت حافياً. أنا الآن مع زوجتي وأربعة من أبنائي في المستشفى ولا أحد يحمينا".
أول المستشفيات التي خرجت عن الخدمة هو مستشفى الدرة للأطفال شرقي مدينة غزة، وقد أُطلقت عليه قذائف فسفورية لإخلائه، ومستشفى بيت حانون الواقع في أقصى شمالي قطاع غزة. وأعلنت وزارة الصحة أن حصيلة ضحايا القصف الإسرائيلي في قطاع غزة ارتفعت إلى 11078 قتيلاً في اليوم الخامس والثلاثين للحرب على غزة.
ويقول المتحدث باسم وزارة الصحة أشرف القدرة: "ارتفعت حصيلة ضحايا العدوان الإسرائيلي في اليوم الخامس والثلاثين إلى 11078 شهيداً، من بينهم 4506 أطفال و3027 سيدة و678 مسناً، وإصابة 27490 مواطناً بجراح مختلفة".
يضيف القدرة: "وصلنا 2700 بلاغ عن مفقودين، منهم 1500 طفل، ما زالوا تحت الأنقاض". يتابع أن "الانتهاكات الإسرائيلية بحق المنظومة الصحية أدت إلى استشهاد 198 كادراً صحياً وتدمير 53 سيارة إسعاف، واستهداف 135 مؤسسة صحية وإخراج 21 مستشفى و47 مركزاً صحياً للرعاية الأولية عن الخدمة".
وقالت وزيرة الصحة لدى السلطة الفلسطينية مي الكيلة إن "الكارثة التي تحدث في غزة الآن لم يشهدها التاريخ الفلسطيني والعالمي"، مؤكدة أن "مستشفيات تحاصر وتقصف ويقتل من فيها على مرأى العالم بأسره، من دون أن تحسب إسرائيل حساباً لا لقانون ولا لأخلاق ولا لأعراف".
ويشير مدير مستشفى العودة أحمد مهنا إلى أنه مستمر في العمل، على الرغم من التهديدات باستهدافه منذ 20 يوماً، وقد تعرض محيط المستشفى لدمار هائل وكبير بعد استهدافه. كذلك دُمر عددٌ من سيارات الإسعاف من جراء القصف، وهو ما يعني أنهم يعملون الآن في نطاق محدود جداً.
ويقول مهنا لـ "العربي الجديد": "أكثر من نصف نوافذ المستشفى الآن محطمة، وهناك أضرار في بوابة المستشفى وبعض الغرف. وأصيب عدد من الطواقم الطبية بالإضافة إلى عدد آخر من مسعفي جمعية الهلال الأحمر الفلسطيني".
وباتت ساحات المستشفيات مكاناً تجتمع فيه الطواقم الطبية المتخصصة والنازحون والصحافيون. ويقول النازح أحمد أبو مسامح (40 عاماً) الموجود في مجمع الشفاء الطبي، لـ"العربي الجديد": "لا نعرف إلى أين نذهب. القصف في كل مكان. نقلت إقامتي مع زوجتي وثلاثة من أبنائي، بينهم طفل يعاني من ضمور في الدماغ، إلى قسم فيه حائط كبير يغطّينا. حتى الشمس لا أريدها الآن".
إضافة إلى ذلك، أفادت المتحدثة باسم منظمة الصحة العالمية مارغريت هاريس بأنّ مجمّع الشفاء الطبي الواقع في مدينة غزة، شرقي القطاع المحاصر والمستهدف، عرضة للقصف الإسرائيلي. وردّاً على سؤال حول تصريحات وزارة الصحة في غزة عن تنفيذ إسرائيل ضربة جوية على ساحة مجمّع الشفاء الطبي، قالت هاريس: "لا تفاصيل لدي في ما يخصّ المستشفى، لكنّنا نعلم بالفعل أنّه يتعرّض للقصف". أضافت أن مجمّع الشفاء الطبي يشهد "عنفاً مكثّفاً"، وذلك نقلاً عن "زملاء يعملون هناك".
من جهة أخرى، بيّنت المتحدثة باسم منظمة الصحة العالمية أنّ 20 مستشفى في القطاع خرجت كلياً عن الخدمة حتى الآن، في حين أنّ عدداً آخر يعمل بصورة جزئية.
وبحسب ما نقلت وكالات الأنباء، فقد أصابت ضربات إسرائيلية مواقع قريبة من مستشفيات عدّة في مدينة غزة، فيما كانت قوات الاحتلال تتوغّل في أحياء مأهولة.
(العربي الجديد)