منذ السابع من أكتوبر/ تشرين الأول الحالي، أغرق الاحتلال الإسرائيلي مواقع التواصل الاجتماعي، والإعلام بالدعاية والمحتوى المنحاز، بهدف تشكيل الرأي العام العالمي، وتأمين غطاء شعبي يبرر عدوانه الوحشي المتواصل على قطاع غزة.
وفي الأيام الأولى للعدوان، بدا كأنّ الاحتلال فعلاً يكسب معركة الرأي العام، لكن اليوم ومع دخول العدوان أسبوعه الرابع، يبدو أنّ أثر الدعاية الإسرائيلية يتراجع، في ظل التظاهرات الضخمة التي يشهدها العالم تضامناً مع فلسطين، ومع تدفّق الصور المرعبة التي توثّق حجم الإرهاب الإسرائيلي في القطاع.
ورغم أن وسائل الإعلام الغربية التقليدية (خصوصاً الأميركية) لا تزال تكرّر رواية إسرائيل حول العدوان، فإنّ نفوذ الاحتلال يتراجع أمام التأثير المتزايد للفلسطينيين في المجتمع الأميركي.
كذلك، فإنّ اتكال الاحتلال على انحياز الإعلام التقليدي، ليس كافياً لفوزه في معركة الرأي العام، بما أن الجمهور بات يستهلك المعلومات مباشرة من مواقع التواصل، وهو ما يجعل مستحيلاً على الحكومات السيطرة بشكل كامل على الرواية، رغم انحياز كبرى شركات التكنولوجيا، خصوصاً "ميتا" للاحتلال.
تأثير أخطبوطي في الإعلام ومواقع التواصل
على الصعيد العالمي بدت الرواية الإسرائيلية حول طوفان الأقصى والعدوان على غزة هي المهيمنة في الأسبوع الأول الذي تلا السابع من أكتوبر. إذ عملت المؤسسات الإخبارية الدولية على تضخيم مبررات الاحتلال وتفسيراته وتأكيداته الرسمية، وهو ما لا يزال مستمراً حتى اليوم.
وفي الإعلام التقليدي هيمنت صور القتلى الإسرائيليين والمقابلات مع أقاربهم على نشرات الأخبار الطويلة، فيما تحوّلت معاناة الفلسطينيين إلى مجرد لقطات كاميرا ثابتة تظهر الدمار، الذي يجعل المشاهد يخال أنها مجرّد لعبة فيديو خالية من بشر حقيقيين. دمار بلا بشر.
وتجاهلت الصحافة العالمية صور الفلسطينيين تحت الأنقاض، والعائلات المنكوبة، والجثث المتراكمة، أقله في الأسبوعين الأولين من العدوان.
أما على الشبكة فأغرق الاحتلال مواقع التواصل والمواقع الإخبارية بالإعلانات، ترويجاً لروايته. فمباشرة بعد عملية طوفان الأقصى، دشّنت الحكومة الإسرائيلية حملة واسعة النطاق على وسائل التواصل في الدول الغربية الرئيسية لحشد الدعم لعدوانها على غزة.
كما تواصلت مع عشرات المشاهير والمؤثرين حول العالم، الذين يتمتعون بملايين المتابعين، للترويج لروايتها، وشحذ التعاطف الشعبي. على سبيل المثال عرضت وزارة الخارجية الإسرائيلية 30 إعلاناً في أسبوع واحد، شوهدت أكثر من 4 ملايين مرة على "إكس".
واستهدفت هذه الإعلانات البالغين الذين تزيد أعمارهم عن 25 عاماً في بروكسل وباريس وميونخ ولاهاي. وصوّرت الإعلانات الممولة حماس على أنها "جماعة إرهابية شريرة" على غرار تنظيم داعش، مع صور قاسية وعبارات مثل "لقد هزم العالم داعش. العالم سيهزم حماس".
وعلى موقع "يوتيوب"، بثّت وزارة الخارجية الإسرائيلية أكثر من 75 إعلاناً مختلفاً موجهاً إلى دول غربية تشمل فرنسا وألمانيا والولايات المتحدة والمملكة المتحدة.
وروّجت السلطات الإسرائيلية 50 إعلان فيديو باللغة الإنكليزية في دول الاتحاد الأوروبي، بينما دفعت بنحو 13 إعلاناً للمشاهدين في الولايات المتحدة والمملكة المتحدة، على التوالي، وقد شوهدت المقاطع أكثر من 3 ملايين مرة.
في المقابل، صعّدت إسرائيل حربها على الإنترنت في غزة، إذ أدت غارات الاحتلال إلى تدمير البنية التحتية للاتصالات في غزة، مما ترك الملايين على وشك انقطاع كامل للشبكة.
هذا ولا تسمح الحكومة الإسرائيلية للصحافيين الأجانب بدخول غزة، فيما يعمل الصحافيون الفلسطينيون في غزة بظروف كارثية.
شيء ما يتغيّر لصالح فلسطين
لكن في الأيام الماضية، بدا كأن السردية العالمية تتغيّر. "القوة التي تحاول بها الدعاية الإسرائيلية السيطرة على السردية العامة هي مؤشر على مدى قلق الاحتلال من التقدم الذي أحرزه الفلسطينيون لتأكيد حقنا في الوجود" تكتب أستاذة العلوم السياسية في جامعة ماساتشوستس بوسطن، ليلى فرسخ، في موقع The New Arab.
فبعد طوفان الأقصى، أجرت القنوات الإخبارية الليبرالية الأميركية الرئيسية مقابلات مع محللين أميركيين، ومسؤولين عسكريين سابقين، ودبلوماسيين سابقين حول أسباب الهجوم وتداعياته.
وتذكّر فرسخ بأنه قبل 30 عاماً كان الإعلام ومعه العالم يتجاهل الفلسطينيين أو يحصر تعريفهم فقط في أنهم "إرهابيون"، بينما "اليوم حاضرون وصوتنا مسموع في كل جامعة، ويتم انتخابنا لعضوية الكونغرس الأميركي ومجالس المدن في جميع أنحاء البلاد، وقد أنشأنا منابر إخبارية خاصة بنا".
على الإنترنت واجهت الحملة الترويجية الإسرائيلية تحديات تفرضها قوانين الدول وقواعد شركات التواصل الاجتماعي. على سبيل المثال، أزالت "غوغل" حوالى 30 إعلاناً إسرائيلياً تحتوي على صور عنيفة، رغم أنّ بعض مقاطع الفيديو لا تزال متاحة على قناة يوتيوب التابعة لوزارة الخارجية الإسرائيلية مع بعض التحذيرات.
وقوبلت الإعلانات عبر الإنترنت بمعارضة المشاهدين الذين سعوا إلى إيجاد طرق لوقف استهدافهم من قبل الخارجية الإسرائيلية.هذا وطالب المفوض الأوروبي المسؤول عن تطبيق قانون الخدمات الرقمية، تييري بريتون، بعض المنصات بتكثيف جهودها لحماية المشاهدين الصغار من المحتوى الضار. كما ذكّر الاتحاد الأوروبي الرئيس التنفيذي لـ"غوغل" ساندر بيتشاي، بأن يكون "يقظاً للغاية" لضمان احترام "يوتيوب" لقانون الخدمات الرقمية الأوروبي.
أما في الإعلام، فتسللت تدريجياً قصص إنسانية، للشهداء والناجين في المجزرة الإسرائيلية. صحيفة "ذا غارديان" البريطانية، وبعد أسبوعين من الانحياز التام للرواية الإسرائيلية، وتغييب الصوت الفلسطيني، بدأت الأسبوع الماضي، بنشر تقارير تتضمن صور وأسماء الشهداء في القطاع، وتسلّط الضوء على الكارثة الإنسانية.كذلك بدأت صحف مثل "نيويورك تايمز" الأميركية، مقالات رأي لكتّاب فلسطينيين، يوضحون السياق التاريخي للتطورات الأخيرة في غزة.
قواعد جديدة تفرضها مواقع التواصل
تعمل شركات التكنولوجيا الكبرى بشكل متزايد على التقليل من أهمية الأخبار التي تنشرها المؤسسات الإعلامية، لصالح المحتوى الذي ينشئه المستخدمون أنفسهم. وهذا يعني أن جزءاً كبيراً من اللقطات والأخبار التي تصل إلى الجمهور مصدرها مؤثرون ومستخدمون من داخل القطاع أولاً أو متضامنون معهم ثانياً، وهو ما بدا واضحاً من خلال بروز وجوه شابة من داخل غزة، باتت هي مصدراً رئيسياً للأخبار، مثل معتز عزايزة وبالستيا العقاد، وبيسان عودة.
ويقول موقع ديفنس ون إنه بسبب التضاؤل البطيء لأهمية وسائل الإعلام والصحافة بشكل عام، "حتى في الوقت الذي تكافح فيه إسرائيل للسيطرة على رواية الحرب، فإنّها تفشل في معالجة التصور العالمي المتزايد بأنّ سياساتها تمنع العدالة عن الفلسطينيين وتتسبب في الموت والمعاناة في غزة بما يتجاوز بكثير ما عانت منه إسرائيل".
ويوضح مقال لمحرر العلوم والتكنولوجيا في الموقع، باتريك تاكر، أنه "في المجتمعات الغربية، وفي السياق الأوسع لحركات العدالة الاجتماعية الدولية، تبدو الحقائق القاسية للحياة اليومية للفلسطينيين غير عادلة للكثيرين، بما في ذلك العديد من اليهود".
على الشاشات
في الأسبوع الأول من العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، غرّد أكثر من أكاديمي وباحث وصحافي فلسطيني، عن إلغاء مقابلات كانت مقررة معهم على قنوات غربية، أميركية وبريطانية وكندية بشكل أساسي. من بين هؤلاء، نورا عريقات ومحمد الكرد وغيرهما... لكن مع ازدياد وتيرة العنف، وإصرار الاحتلال على ارتكاب إبادة جماعية بحق سكان القطاع، بدأت الأصوات الفلسطينية ترتفع على الشاشات الغربية.
وقد حظيت هذه المقابلات بنسب مشاهدة عالية جداً، وتأثير كبير أيضاً عند الجمهور الغربي. نأخذ على سبيل المثال، المقابلات التي أجراها الإعلامي البريطاني بيرس مورغان مع باسم يوسف، ورحمة زين ومحمد حجاب، ومصطفى البرغوثي. أو المقابلات التي أجراها السفير الفلسطيني في لندن حسام زملط على قنوات عدة، من بينها "سي أن أن" و"بي بي سي" و"سكاي نيوز" وغيرها... والحوارات المختلفة التي أجراها صحافيون شباب من داخل قطاع غزة، مثل يارا عيد وغيرها باللغة الإنكليزية، مخاطبين الغرب، ومقدمين الرواية الفلسطينية بشكلها المباشر، بلا رقابة ولا تخفيف من تفاصيلها الدموية.
وقد تعرّض جميع هؤلاء إلى هجوم وحملة تشويه على مواقع التواصل من قبل صحافيين ومغردين إسرائيليين، أو من اليمين المحافظ في بريطانيا والولايات المتحدة، لكن رغم ذلك، بقيت مقاطع مقابلاتهم تنتشر بكثرة على الشبكة.
(العربي الجديد)