كانت الحرب العنيفة التي يشنها الاحتلال الإسرائيلي على قطاع غزة منذ 13 يوما بمثابة ورقة التوت التي سقطت لتكشف سوءة كثير من وسائل الإعلام الغربية التي ما فتئت تُقدّم "دروسا مجانية" عن الحياد والمهنية وحرية التعبير.
فمنذ أن أطلقت المقاومة الفلسطينية، وفي مقدمتها كتائب عز الدين القسام -الجناح العسكري لحركة المقاومة الإسلامية (حماس)- في السابع من أكتوبر/تشرين الأول الجاري، عملية طوفان الأقصى، أصبحت كثير من وسائل الإعلام الغربية ناطقا بلسان الاحتلال الإسرائيلي، تردد رواياته وأكاذيبه، وابتعدت كثيرا عن قيم الإعلام المهني، كما يقول خبراء الإعلام.
من "أكذوبة قطع رؤوس أطفال إسرائيليين"، مرورا بتسمية العدوان نفسه بـ"حرب إسرائيل وحماس"، وليس آخرا باتهام حركة الجهاد الإسلامي بالمسؤولية عن مجزرة مستشفى المعمداني في غزة، سقطت وسائل الإعلام الغربية في فخ تقديم المصلحة على المهنية.
ويلحظ المتابع أن جوهر وشكل التغطية الصحفية في واشنطن ولندن وبرلين وغيرها من العواصم التي تصفق لإسرائيل يتحددان بناء على هوية الضحايا وانتمائهم العرقي لا على أساس قيمة الحياة الإنسانية بحد ذاتها.
ويكفي في ذلك مثلا أن تستخدم هيئة الإذاعة البريطانية "بي بي سي" أثناء تغطيتها للحرب كلمة "ماتوا" للإشارة إلى من قتلوا في غزة، و"قتلوا" لوصف القتلى الإسرائيليين.
وهو أمر أبسط من غيره مما يمكن وصفه بـ"فضيحة إعلامية" شعارها اكذب ثم اكذب حتى يصدّقك العالم.. انشر روايات مختلقة عن قطع رؤوس لم يقع أو اغتصاب نساء لم يحدث، وإن كُشفت افتراءاتك، قدّم اعتذارا عابرا على تسرعك بينما يتسلم منك زميل آخر عصا سباق التتابع ليروّج أكذوبة لا تقل شناعة عبر استخدامه الذكاء الاصطناعي في تحويل صورة كلب مريض على سرير الشفاء إلى صورة طفل متفحّمٍ بنار الإرهاب.
المقاومة تقصف شعبها!
هكذا يُريد الاحتلال الإسرائيلي منا أن نصدّقه، ويتبعه في ذلك بعض الإعلام الغربي. "كذبة" أطلقها المتحدث باسم جيش الاحتلال للتغطية على مجزرة قصف مستشفى المعمداني في غزة، وسرعان ما تناقلتها وسائل إعلام عالمية.
لكن اللافت أن "بي بي سي" نشرت، قبل يوم واحد من قصف المستشفى تقريرا يتساءل "ببراءة": "هل تقوم حماس ببناء الأنفاق تحت المستشفيات والمدارس؟".
ويضيف التقرير أنه "من المرجح أن تتدفق شبكة الأنفاق تحت أحياء مكتظة بالمنازل والمستشفيات والمدارس، مما يمنح الاحتلال الإسرائيلي ميزة الشك عندما يتعلق الأمر بقصف مثل هذه الأهداف".
وجاء الجواب من الاحتلال في اليوم التالي بارتكاب مجزرة المستشفى وقتل المئات من المرضى وذويهم من النساء والأطفال، في مجزرة ربما لم يشهد التاريخ مثيلا لها.
وكررت مراسلة "سي إن إن" الأميركية ما قاله جيش الاحتلال، وقالت إن "حماس ربما أخطأت في إطلاق الصواريخ لتسقط على المستشفى في غزة، وفقا للجيش الإسرائيلي".
أما "سكاي نيوز" البريطانية فحاولت ادعاء الحياد، حين كتبت عبر حسابها على "إكس" بأن وزارة الصحة في غزة تتحدث عن استشهاد المئات في قصف على المستشفى المعمداني في مدينة غزة، مضيفة "ولم تتمكن سكاي نيوز من التحقق بشكل مستقل من التقرير".
الفبركة شعار المرحلة
ويتجلى الدعم الغربي الكامل في تبني كل الأخبار الواردة من إسرائيل من طرف أعلى قيادة في الولايات المتحدة، حتى لو كانت مُفبّركة كما حدث مع ادعاء "قطع حماس رؤوس أطفال إسرائيليين"، الذي فبركته مصادر إسرائيلية وتحدث عنه الرئيس الأميركي جو بايدن، فضلا عن وسائل إعلامية غربية مشهورة.
الأنباء التي اعتُمدت في الغرب على أنها حقائق -دون تحقق- أُفردت لها تغطيات بالساعات قبل أن يظهر سريعا أنها مُؤسّسة على قيل وقال مصدره جندي اسمه ديفيد بن زيون، وهو من عتاة المستوطنين، ولطالما دعا إلى قتل الفلسطينيين، وقد حدّث قناة إسرائيلية وطارت بها الأنباء كحقيقة في كبرى قنوات التلفزة الغربية وتصدّرت صحفهم.
وذكر تقرير نشره موقع "ميدل إيست آي" البريطاني أن وسائل الإعلام البريطانية هيمنت عليها تقارير عن مذبحة ارتكبها مقاتلو حركة حماس في المستوطنات في جنوب إسرائيل، وزُعم على نطاق واسع أنهم قطعوا رؤوس الأطفال.
ونشرت العديد من الصحف الرائدة في بريطانيا -بما في ذلك "ديلي ميل"، و"ذا صن"، و"ذا تايمز"، و"ديلي تلغراف"- تفاصيل عن عمليات القتل المزعومة لـ40 طفلا، بما في ذلك أطفال رضع، وهو الادعاء الذي لم يستطع أحد -بما في ذلك الاحتلال- إثباته بأي شكل من الأشكال، كما أن حماس نفته، ونشرت عدة مقاطع فيديو تُثبت العكس تماما، من خلال تعاملها الرحيم مع النساء والأطفال.
وقالت صحيفة "ذا صن" في صفحتها الأولى "المتوحشون يقطعون رؤوس الأطفال في مذبحة". وقالت "التايمز" "لقد قطعت حماس حناجر الأطفال في مذبحة"، علما أن الصحيفتين مملوكتان لشركة روبرت مردوخ للأخبار في المملكة المتحدة.
أما مقدّم الأخبار الشهير بقناة "سي بي إس" الأميركية جيف جلور فقال إنه شاهد صورا، ولم يسائله أحد ماذا وأين ومتى؟
وبدت هذه الحملة ممنهجة ضمن ما يُعرّفه خبراء الإعلام بـ"الدعاية السوداء" لشيطنة الآخر، وخطورتها أنها تُحضّر المتلقي لتقبل قتل من تُشنّ عليه.
تناسى بعضهم الأمر، فيما دفعت بقية شجاعة مهنية آخرين للتصويب، كمذيعة "سي إن إن" سارة سايدنر التي قالت إنها كانت على الهواء عندما وصلت مزاعم ذبح الرضع، وأنها تسرّعت، وكان ينبغي أن تكون أكثر حذرا، أما الباقون فما زالوا يراسلون ويتحدثون وكأن كذبة لم تكن.
وقال مارك أوين جونز، وهو أكاديمي يبحث في المعلومات المضللة في الشرق الأوسط، لموقع ميدل إيست آي، إن الروايات حول الأطفال المقتولين كانت "عاطفية" واستخدمت في حملات دعائية تعود للحرب العالمية الأولى لشيطنة الأعداء.
قصف ريشة رسّام
وقبل يومين، قال ستيف بيل رسام الكاريكاتير في صحيفة "ذي غارديان" البريطانية إنه أقيل من عمله بتهمة معاداة السامية بعد أن رسم كاريكاتيرا ينتقد فيه ممارسات رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في قطاع غزة.
ويظهر الكاريكاتير نتنياهو مُرتديا قفازات ملاكمة وهو يحدد جزءا من خريطة تمثل قطاع غزة -تمهيدا لاقتطاعه- مع عبارة "يا سكان غزة اخرجوا الآن" في إشارة إلى أن إسرائيل تطلب من أهالي غزة النزوح جنوبا قبل غزو بري متوقع.
وقال الصحفي إنه قدّم الرسم لمسؤولي "ذي غارديان"، ولكنه قوبل بالرفض، قبل أن تُنهي الصحيفة عقدا معه استمر أكثر من 40 عاما بسبب رسم كاريكاتيري تراه غير مناسب، وكان بإمكانها الاكتفاء برفض نشر الرسم -كما قال بيل نفسه- لكنهم أخذوا الإجراء الأقسى، وهو إنهاء خدماته بالكلية.
لكن المفارقة -التي توقف عندها الكثيرون- أن وسائل الإعلام الغربية لطالما قدّمت للعرب والمسلمين "دروسا" في حرية التعبير، خصوصا إذا ما تعلّق الأمر برسوم أو تصريحات مسيئة للنبي صلى الله عليه وسلم أو للمقدسات الإسلامية عموما، وقد جاءت ممارساتها العملية لتعكس ما هو "أصدق إنباءً من الكتب".
إسكات بالقوة!
لكن غياب الحياد والمهنية عن تغطية كثير من وسائل الإعلام الغربية لعملية طوفان الأقصى والحرب غير المسبوقة التي يشنها الاحتلال الإسرائيلي على غزة، لم تتوقف عند حد الانحياز للرواية الإسرائيلية، ونشر الأكاذيب بشكل -يرى كثيرون- أنه ممنهج، بل وصل إلى "إسكات" بعض الأصوات التي لا تتماهى مع هذا الخط.
وأبرز مثال على ذلك، ما فعلته شبكة "إم إس إن بي سي" الأميركية، حين أوقفت 3 من أبرز مذيعيها المسلمين قبل أيام. وأكدت مصادر أن مهدي حسن وأيمن محيي الدين وعلي فلشي تم إخراجهم بهدوء من منصبهم كمذيعيين منذ هجوم المقاومة الفلسطينية على إسرائيل.
وفي أميركا أيضا، تم فصل المراسل الرياضي جاكسون فرانك من موقع "فيلي فويس" الإخباري الذي انضم إليه أخيرا بعد أن كتب على موقع إكس "أتضامن مع فلسطين دائما"، فردّ الموقع بإقالته.
ولم تختلف "بي بي سي" البريطانية بعراقتها عن ذلك، بعد أن قررت التحقيق مع 6 من صحفييها العرب في مكتبي القاهرة وبيروت، بالإضافة إلى وقف التعامل مع صحفية أخرى مستقلة، بدعوى "نشاطهم المتحيز لفلسطين على حساباتهم بمواقع التواصل".
وتضم قائمة الصحفيين المحالين للتحقيق: محمود شليب، سالي نبيل، سلمى الخطاب، بالإضافة إلى الصحفي في القسم الرياضي بمكتب القاهرة عمرو فكري، والصحفية المستقلة آية حسام في القاهرة التي أوقفت "بي بي سي" التعامل معها، والصحفيتين سناء الخوري وندى عبدالصمد من لبنان.
وقد أوقفت إدارة "بي بي سي" صحفيي مكتب القاهرة عن العمل مؤقتا لحين انتهاء التحقيقات.
ولا يتوقف الأمر على وسائل الإعلام، فبعض الساسة لا يريدون -فيما يبدو- سوى "إعلام الصوات الواحد"، وقد انبرى المرشح الجمهوري لانتخابات الرئاسة الأميركية رون ديسانتس محذرا من مشاهدة قناة الجزيرة في تغطيتها للقصف الإسرائيلي على غزة، بعد أن سُئل عن قصف المباني السكنية حيث يمكث المواطنون العزل.
أما على مستوى إسرائيل، فالأمر أكبر بكثير، وهو لا يتعلق بتناول إعلامها للحرب، فهذا متوقع باعتبارها طرفا، وإنما بمحاولة فرض روايتها على وسائل إعلام مستقلة، كما فعل المتحدث باسم جيش الاحتلال أفيخاي أدرعي الذي نشر على منصة "إكس" صورة من موقع الجزيرة نت لتغطية القصف الإسرائيلي على غزة، وتحديدا مستشفى المعمداني، وكتب: "ليكون واضحا: تنظيم الجهاد الإسلامي الإرهابي يقف وراء عملية إطلاق الصاروخ الفاشل الذي أصاب المستشفى المعمداني وأوقع هؤلاء القتلى والجرحى"، معدّلا على عنوان الخبر نفسه.
وقبل ذلك، نشر حساب وزارة الدفاع الإسرائيلية على "إكس" أيضا معاتبا الإعلام الغربي -على كل ما فيه من انحياز- بسبب أن بعض وسائل الإعلام هذه نسبت قصف مستشفى المعمداني لجيش الاحتلال، ولم تأخذ الرواية الإسرائيلية للحدث.
ويبقى السؤال هل يعود الإعلام الغربي إلى حياده ومهنيته، أم يتوقف -على الأقل- عن ادعاء ذلك؟
المصدر : الجزيرة