ارتكزت السياسات والمبادرات الأمريكية في الشرق الأوسط على مدار العقود الماضية، ولاسيما منذ الثورة الإيرانية عام 1979، على شبكة معقدة من النفوذ والعلاقات مع أربع ركائز إقليمية مختلفة: السعودية، وإسرائيل، وتركيا، ومصر. وعملت الولايات المتحدة في مرحلة أو أخرى مع واحدة أو أكثر من هذه الدول لاحتواء النيران الدائمة التي تجتاح المنطقة (حتى حين كانت هذه الدول نفسها هي مَن أشعلت النيران في المقام الأول).
وحققت الولايات المتحدة على مدار السنوات تغييرات لافتة في المنطقة، بمفردها أو مع بقية الحلفاء سالفي الذكر. لكنَّ العالم الذي أدَّى إلى ظهور هذه العلاقات يخضع لتغيُّرات تتطلَّب عملية إعادة تقييم جادة، بل وحتى جذرية. فلم يعد هنالك تهديد سوفييتي لمنطقة الخليج، وصارت الولايات المتحدة أكبر منتج للنفط في العالم.
وفي الوقت نفسه، انهارت "محادثات السلام" برعاية الولايات المتحدة بين الفلسطينيين والإسرائيليين قبل عقد من الزمن تقريباً، وأصبح حل الدولتين ميتاً منذ زمن طويل، والمتطرفون الذين يتولون زمام السلطة في إسرائيل اليوم هم في "مهمة دينية لضم كل الأراضي الفلسطينية" إلى سيطرتهم رسمياً.
نهاية الشرق الأوسط الأمريكي.. دول المنطقة تتخذ مساراتها الخاصة
تقول مجلة Foreign Policy الأمريكية، إن قادة السعودية وإسرائيل وتركيا ومصر يصيغون مساراتهم الخاصة منذ وقت، متجاهلين على نحوٍ واضح مصالح واشنطن الأساسية وعلاقتهم القديمة معها. وهم يعتقدون أنَّ العلاقات الأوثق سياسياً واقتصادياً وعسكرياً مع روسيا أو الصين أو الهند أو بعضهم البعض -سراً أو علانيةً- ستمدهم بالبدائل المناسبة للولايات المتحدة. وبعبارة صريحة، أصبحت ركائز أمريكا الأربع في الشرق الأوسط متصدعة بدرجة لا يمكن معها الاعتماد عليها.
كُتِبَ الكثير مؤخراً عن انخراط الأتراك والإسرائيليين والعرب في حوار مع بعضهم البعض لاستكشاف سبل لإحياء الدبلوماسية والتعاون والاستثمارات الإقليمية. بل وصل بعض المحللين إلى حد إعلان بزوغ حقبة جديدة في الشرق الأوسط.
لكن لا بد من استقبال حالات تهدئة التوترات هذه بكثير من الحذر، فالرجال الذين يتغنّون اليوم بفضائل المصالحة هم نفس الرجال الذين خرّبوا اليمن، وضربوا حصاراً على قطر، وعاثوا فساداً في سوريا وليبيا، وما لبثوا ينبذون الطاغية السوري بشار الأسد حتى رحَّبوا به بعدما ارتكب جرائم حرب وحوَّل بلاده إلى دولة مخدرات.
وتقول فورين بوليسي، إن المملكة العربية السعودية وإسرائيل وتركيا ومصر اتبعت جميعها أشكالاً من القومية العدوانية. فقننت إسرائيل الشوفينية الدينية والنزعة الإقصائية بالفعل، ويُحرِّض قادتها بصورة منتظمة على الإرهاب، ويدعون للتطهير العرقي ضد فلسطينيي الضفة الغربية. وفي السعودية، عزَّز ولي العهد الأمير محمد بن سلمان ثقافة جديدة من القومية المغالية، في محاولة لتقليص نفوذ المؤسسة الدينية وبناء هُوية وطنية سعودية تتمحور حول شخصيته باستخدام وسائل قسرية.
وفي تركيا، يشتهر الرئيس رجب طيب أردوغان باستنهاض نسخة من القومية التركية التي يتخللها إحياء "النزعات" العثمانية. وفي مصر، يُعَد عهد الرئيس عبد الفتاح السيسي المستمر منذ عقد من الزمن هو الأكثر استبداداً وكارثية في التاريخ المصري الحديث، بحسب المجلة الأمريكية.
مصالح أمريكا في المنطقة لم تعد أولوية لهذه الدول
علاوة على ذلك، توقفت هذه البلدان في الغالب عن التعاون مع الولايات المتحدة بشأن الأولويات الإقليمية الأمريكية. فكان السيسي يعتزم إمداد روسيا بالصواريخ وقذائف المدفعية لاستخدامها ضد أوكرانيا قبل أن ترصده وكالات الاستخبارات الأمريكية في وقتٍ سابق من هذا العام. وبالكاد تمكَّن أردوغان عن طريق المناورة الذكية من أن يشق طريقه للخروج من أزمة كبرى مع الرئيس جو بايدن والقوى الأخرى في حلف شمال الأطلسي (الناتو) في قمة فيلنيوس، حين بدا أنَّه يتخلّى عن معارضته لانضمام السويد للناتو بعد عام أو أكثر من عرقلة الأمر.
تبددت أيضاً العوامل التاريخية التي أدَّت في السابق إلى تعزيز العلاقات مع واشنطن، فلم يعد الاتحاد السوفييتي، الذي شكَّل تهديداً لبلدان المنطقة، موجوداً. (وللمفارقة، يتمتع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين اليوم بعلاقات أكثر دفئاً مع رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، ومحمد بن سلمان، وأردوغان من العلاقات التي يتمتع بها هؤلاء القادة مع بايدن). ولم تعد هنالك تهديدات خارجية للخليج.
دول الخليج تعمل على إعادة تأسيس للخطوط البحرية القديمة مع الشرق
وقد تغيَّر أيضاً الدور الذي لعبه النفط بصورة جذرية. وقد عزَّز النفط علاقات أمريكا مع السعودية منذ الحرب العالمية الثانية، واعتمدت الولايات المتحدة وحلفاؤها في أوروبا وآسيا على النفط المستورد من السعودية وبقية دول الخليج، مقابل ضمان الجيش الأمريكي لأمن هذه المعاملات.
لكنَّ الولايات المتحدة لم تعد القوة الخارجية الوحيدة صاحبة المصلحة الاقتصادية في الخليج. فالقوى الآسيوية مثل الصين والهند وغيرهما أقامت أو أعادت إقامة علاقات اقتصادية وتجارية معقدة مع الخليج. ومن الطبيعي أن يجلب النشاط الاقتصادي الآسيوي الأكبر معه نشاطاً سياسياً وعسكرياً أكبر.
وفي الحقيقة، يمثل هذا عودة لتاريخ أكثر عمقاً للمنطقة، فقبل زمن طويل من بزوغ فجر العائدات النفطية الكبيرة، كانت المدن الساحلية الخليجية تشبه المدن الساحلية المطلة على المحيط الهندي. وكانت العائلات التجارية تهيمن على اقتصادات هذه المدن الساحلية الصغيرة: العائلات العربية، والفارسية، والإفريقية، والبلوشية، والهندية، وغيرها، وكان السُّنّة والشيعة يعيشون على ضفّتي الخليج.
وبمرور القرون، طوَّرت هذه العائلات ثقافة بحرية ثرية خلقت تبادلاً معقداً للأشخاص والبضائع عبر مدن الخليج، وشرق إفريقيا، والمدن الساحلية في شبه القارة الهندية، وغيرها. كان هؤلاء التجار المشهورون يجوبون هذه المياه قبل زمن طويل من سيطرة القوى الغربية عليها. من ثم، فإنَّ تطلُّع دول الخليج شرقاً ليس أكثر من مجرد إعادة تأسيس للخطوط البحرية القديمة، كما تقول فورين بوليسي.
ومن هذا المنظور، فإنَّ اللغة القلقة في بعض الدوائر الرسمية في واشنطن وفي طبقة المحللين البارزين على خلفية دور الصين المحدود في إعادة تأسيس العلاقات الدبلوماسية بين السعودية وإيران غير مبررة ومبالغ فيها.
فمعظم العمل الشاق الأوّلي الذي تم في وقتٍ سابق بهدوء في مباحثات في بغداد وعُمان، إلى أن أتت القيادة السعودية -الرامية إلى لفت انتباه واشنطن- بالصين لإنتاج المشهد الأخير والإشراف عليه، مانِحَةً بكين الفضل في إنتاج كامل العملية. جاء رد فعل إدارة بايدن كما هو متوقع، وهو ما يفسر، جزئياً على الأقل، اندفاعها الحالي غير الملائم للتوصل إلى سلام بين السعودية وإسرائيل.
"المرح مع الصين على حساب أمريكا ستكون له عواقب"
لا تستطيع دولة أو مجموعة من الدول تقويض الأفضلية الاستراتيجية والاقتصادية والفنية الأمريكية في منطقة الخليج بصورة حقيقية على مدى المستقبل المنظور، ويجب أن توضح الولايات المتحدة لدول الخليج أنَّ "المرح مع الصين على حساب الولايات المتحدة سيكون له عواقب".
والرياض ليست على وشك وقف توجهها الغربي طويل الأمد، إذ ستستمر التكنولوجيا والخبرة الأمريكية في كونها ضرورية لقطاع الطاقة السعودي، الذي يبقى مصدر الدخل الرئيسي للمملكة، ولسنا على وشك أن نرى الآلاف من الطلاب السعوديين الشباب يتدفقون إلى بكين وشنغهاي لدراسة لغة الماندرين، كما تقول المجلة الأمريكية.
ويُعَد هوس إدارة بايدن الواضح بالتوسط في صفقة بين السعودية وإسرائيل لإضفاء الطابع الرسمي على التطبيع القائم بينهما عملياً أمراً عبثياً، فحتى لو نجح جزئياً فإنَّه لن يفيد الولايات المتحدة سياسياً أو استراتيجياً على المدى الطويل. وستكون نتيجته الأساسية هي تعزيز الحكم لمحمد بن سلمان وتشجيع نتنياهو في تأسيسه لإسرائيل أكثر أصولية وتطرفاً. وصفقة كهذه، بصرف النظر عن أي ضمانات تُمنَح للفلسطينيين، لن تُغيِّر واقعهم الأساسي الذي يعيشونه، واقع الاحتلال وحرمانهم من حقوقهم الأساسية.
هل تستغل دول المنطقة مخاوف واشنطن من الصين؟
ويمثل الثمن الذي تحاول السعودية انتزاعه من إدارة باين- بما في ذلك المزيد من الضمانات الأمنية الموسعة التي من شأنها رفع المملكة إلى مكانة الحلفاء الرسميين الآخرين للولايات المتحدة، والتكنولوجيا النووية من أجل برنامج طاقة مدني، وقدرة أكثر حرية للحصول على السلاح الأمريكي- عبئاً أكبر من أن يمكن تحمُّله. فالسعودية ليست شريكاً يستحق هذا الثمن، نظراً لشخصية بن سلمان وتاريخه العدواني.
وتضيف المجلة الأمريكية أن ولي العهد يستغل مخاوف واشنطن المبالغ فيها من الوجود القوي للصين في منطقة الخليج للحصول على تنازلات ستندم عليها الولايات المتحدة. وفي حال تحقق اتفاق السلام السعودي- الإسرائيلي، فإنَّه سيكون في أفضل الأحوال صفقة بين النخب الموجودة في كلا البلدين، وسيُسرِّع الانجراف الإقليمي نحو المزيد من السلطوية والاستبداد.
ماذا عن تقليص الوجود العسكري الأمريكي في المنطقة؟
بحسب فورين بوليسي، يجب أن تتم إعادة التقييم الأمريكية للعلاقات مع السعودية وإسرائيل وتركيا ومصر، في سياق تقليص وجودها العسكري في المنطقة. فهنالك قوات أمريكية منتشرة بطول المنطقة، من تركيا وسوريا إلى الأردن والعراق والكويت والسعودية والبحرين وقطر والإمارات وعُمان. هذا بالإضافة إلى رحلات دورية للقاذفات الاستراتيجية الأمريكية في رحلات ذهاب وعودة إلى الخليج، إلى جانب النشر المتكرر لحاملات الطائرات في بحر العرب.
فهل القواعد الجوية الأمريكية الكبيرة ضرورية في الكويت وقطر والإمارات؟ إذ يمكن للولايات المتحدة أن تدافع عن مصالحها في الخليج (أي ردع إيران والجماعات المسلحة في المنطقة) من خلال الإبقاء على القاعدة البحرية بالغة الأهمية في البحرين، وتزويدها بالمزيد من القوة الجوية المركزة.
ويمكن دعم هذه القوة بصورة أكبر من خلال حاملات الطائرات التي تبحر في المياه القريبة. كانت هذه هي الطريقة غير المتغطرسة التي يتم بها الشعور بالقوة الأمريكية في المنطقة قبل سلسلة الحروب الأخيرة في الخليج، بدءاً من غزو العراق لإيران في 1980. وقد قال زعيم عربي خليجي لدبلوماسي أمريكي آنذاك: "نريدكم أن تكونوا كالرياح، فنحن نريد أن نشعر بكم، لكنَّنا لا نريد أن نراكم". كانت تلك نصيحة حكيمة آنذاك، وستكون في الغالب نصيحة حكيمة الآن.
تراجع الثقة بالولايات المتحدة في الشرق الأوسط
في السابق، كان هنالك بالشرق الأوسط مخزون لا بأس به من "حسن الثقة" تجاه الولايات المتحدة. وكانت أمريكا هي الملاذ الذي اختارته الموجة الأولى من المهاجرين بدءاً من ثمانينات القرن التاسع عشر، لأولئك الذين فرّوا من الأوضاع القاسية في دول المنطقة، وسعوا وراء "وعد الحرية" في الولايات المتحدة. والأهم من ذلك، كانت أمريكا قوة غربية كبرى بلا إرث استعماري في الشرق الأوسط.
لكنَّ مخزون حسن النية ذاك بدأ يتناقص مع تنامي الدعم الأمريكي للنظم الاستبدادية القمعية، خلال محاولة كبح جماح الشيوعية والاتحاد السوفييتي. وقد أدَّى احتضان أمريكا لإسرائيل وتدليلها عقب احتلالها للمزيد من الأراضي العربية خلال حرب عام 1967 إلى تعميق وتوسيع اغتراب الكثير من العرب عن الولايات المتحدة.
وتؤكد استطلاعات الرأي في أرجاء المنطقة اليوم الرؤى السلبية للسياسات الأمريكية في الشرق الأوسط وأمريكا نفسها. ومن شأن تقليص الوجود العسكري لواشنطن في المنطقة بعد خوضها حروباً كارثية مثل احتلال العراق وأفغانستان، وتعزيز دفاعها عن حقوق الإنسان بطريقة واضحة وشاملة دون دعم الاحتلال والأنظمة الاستبدادية، أن يقطع شوطاً نحو استعادة مصداقيتها لدى سكان المنطقة. ومن شأنه أيضاً أن يساعدهم في درء الاستبداد والقمع داخل بلدانهم.
وفي وقتٍ يتعرَّض فيه نظام الحكم الديمقراطي لأمريكا، ومجتمعها الليبرالي المفتوح، وتصوراتها الغالية للوطنية الجامعة والتعددية السياسية للتحدي والتآكل، سيكون من الحماقة تقويض تلك القيم والمؤسسات التي تدعمها أكثر من خلال السعي إلى إقامة علاقات أوثق مع نظم لا يمكن الدفاع عنها في الشرق الأوسط.
(عربي بوست)