"نحن ننتظر قدوم جثمان سيدة لننقلها إلى مثواها الأخير"، ذلك ما يخبرنا به سي محمد، العجوز الذي يكاد ينهي عقد السبعينيات من عمره، وقد علت وجهه مسحة من الحزن والألم، انضافت للتجاعيد الكثيرة التي خطها الزمن على محياه الأسمر.
على جنبات الطريق التي تقطع مدينة تحناوت، بإقليم الحوز، والتي تبعد بنحو 40 كيلومترا جنوبي مراكش، اجتمع أفراد أسر عديدة، جلهم من الرجال، ينتظرون -في صمت وألم- إحضار جثث أقرباء لهم من ضحايا الزلزال من مشرحة مراكش، لنقلها إلى "دواويرهم" (تجمعات منازل) النائية لدفنها.
"أنا من دوار الشمس"، يتابع سي محمد حديثه، و"الزلزال مر من هناك أيضا، ولله الحمد لم تحدث وفيات كثيرة، ولم نشهد انهيارات كبيرة للمنازل".
وأضاف "كنت نائما وفوجئت بسقوط حجارة، وظننت للوهلة الأولى أن أحدا ما يهاجم البيت، لكن سرعان ما أيقنا أن الأمر يتعلق بزلزال، ففررنا إلى الخارج، والحمد لله لم يسقط البيت فوق رؤوسنا".
يحمد الشيخ السبعيني الله بين الفينة والأخرى على النجاة وعلى الابتلاء، وعيناه مركزتان على مقدمة الشارع، يرقب قدوم أي سيارة إسعاف قد تحمل جثة قريبته. لكنه يسترسل قائلا "دوار (تجمع منازل) الشمس نجا بحمد الله، لكن في دوار أشبروض كانت المأساة كبيرة".
"محمود درويش"
أشار سي محمد بيده إلى منطقة جبلية، في مكان ما هناك، حيث تكثر الدواوير والأسماء وتتعدد، لكن مأساتها تكاد تكون واحدة، يشرح العجوز السبعيني لنا بعض تفاصيلها وهو يلوح بيده "الناس تعاني، مات الكثيرون، لا بد من أن يصلهم الدواء والغذاء، لا بد".
ثم ما لبث أن أضاف "انتظر معنا من فضلك حتى تصل جثة الضحية لتحضر معنا دفنها، ثم تتفضل معنا إلى بيتنا وتتكرم بقبول أن تكون ضيفنا"! حتى الزلزال المدمر العنيف، الذي دمر كل شيء في طريقه، لم يستطع أن ينسي هؤلاء البسطاء طبع الكرم الذي اشتهروا به في هذه المناطق النائية الفقيرة.
غير بعيد من هذا المكان، يقع دوار أزرو على قمة جبل يترأى من بعيد عند الخروج من تحناوت، بدت بيوت الدوار -المبنية من الطين والحجارة- مهدمة، وقد كانت قبل الزلزال -من دون شك- منظرا جميلا يغري الزائرين والسياح، حيث كانت المنازل البسيطة تزيّن الجبل بتراصها وتلاحمها في حضن الجبل بشكل فاتن.
"كل بيوتنا تهدمت"، يؤكد عدد من سكان الدوار، مضيفين أن عائلات كثيرة فقدت بعض أفرادها بفعل الزلزال المدمر.
ولا تكاد تختلف أوصاف ليلة الحدث الرهيب عما عاشه سكان منطقة الحوز كلها، والتي لخصها السكان في أنها كانت ليلة رعب شديد.
زلزال تحناوت بإقليم الحوز
الإعلاميون حرصوا على التوقف قرب دوار أزرو لنقل المأساة عبر البث المباشر (الجزيرة)
"لقد كنا داخل بيوتنا، وفوجئنا بهزة أرضية شديدة وصوتٍ مرعب"، تشرح عجوز ما جرى بدارجة مغربية مصحوبة بكلمات من الفصحى وبلكنة أمازيغية، مضيفة "كانت ليلة مرعبة.. كانت ليلة مرعبة".
وزادت "لقد كنا نعاني من قبل من البطالة ومن قلة موارد العيش، وأبناؤنا هاجروا إلى المدن بحثا عن العمل، والآن الوضع أسوأ بكثير، لقد فقدنا كل ما نملك".
ويفصل هذا الدوار المنكوب عن الطريق الصغيرة المعبدة الآتية من تحناوت واد جاف، وصارت حافة الطريق مكانا يتوقف فيه الفضوليون والإعلاميون ليتحدثوا في بث مباشر عن الزلزال والدوار المهدم خلفهم.
وفي مثل هذا المكان، وفي مثل هذا الظرف، يستوقف الإنسان بيت محمود درويش:
"وكان جرحي عندهم معرضا
لسائح يعشق جمع الصور".
فقد بدا الدوار المهدم وكأنه لوحة رسمتها يد الزلزال العنيف، وتصلح لأن يستخدمها الإعلاميون خلفية تعكس حجم الدمار، ولذلك لا تكاد سيارة تنقل فريقا إعلاميا تمر من هنا إلا وتوقفت عند هذا المشهد، ليبدأ إعلاميو الفضائيات بثهم الحي، وخلفهم أثر بليغ يدل على أن زلزالا قوته 7 درجات مر من هنا.
أخطر من حرب
"الوضع بعد الزلازل دائما يكون أخطر من الحروب"، وفقما يؤكد الدكتور زهير لهنا، الذي سارع بالحضور إلى مستشفى تحناوت لتقديم الدعم، وهو الذي سبق أن زار عدة دول تعاني من حروب وكوارث، وقدم خلالها -برفقة الفرق الطبية- المساعدة لمن يحتاجها.
الدكتور المتخصص في طب النساء والتوليد قدم إلى تحناوت كغيره من الأطباء من مختلف مناطق المغرب لإنقاذ الأرواح، وأكد لنا أن ضحايا الحروب يسقطون خلال أيام مع اشتداد وتقدم المعارك، لكن عندما يضرب الزلزال، فهو يضرب بقوة أماكن شاسعة خلال ثوان قليلة، ويخلّف مئات أو آلاف الضحايا في وقت وجيز، مما يجعل من مهمة الإنقاذ والعلاج للجميع في وقت وجيز مهمة مستحيلة.
"الوضع في مستشفى تحناوت المحلي جيد، وعدد الأطباء والممرضين كاف جدا، ونحن هنا نستقبل الحالات البسيطة فقط، أما الحالات الحرجة فتنقل مباشرة إلى المركز الاستشفائي الجامعي محمد السادس بمدينة مراكش"، يوضح الدكتور لهنا.
ومن أصعب الحالات التي وصلت إلى هنا حالة شقيقين كانا نائمين أثناء حدوث الزلزال، أحدهما توفي على الفور، في حين قطعت الأطراف السفلية للثاني، وحُمل بعد ساعات من إنقاذه بالقرية الجبلية النائية على نقالة بدائية إلى الطريق الممهد في الأسفل، ونقلته من هناك سيارة إسعاف إلى مستشفى تحناوت، لكن روحه فاضت إلى بارئها وهو في الطريق إلى مستشفى مراكش الذي تُنقل إليها الحالات الصعبة.
الدكتور لهنا، الذي سبق أن قدم الدعم في فلسطين وقطاع غزة تحديدا مرات عدة، وزار مخيمات اللاجئين السوريين في مخيم الزعتري وفي حلب، وزار أيضا ليبيا والهند وأفغانستان والكونغو، قال للجزيرة نت إن الوضع بعد الزلزال صعب جدا، وسيحتاج من الجميع جهدا كبيرا لتجاوز آثاره الصحية تحديدا على مدى سنتين كاملتين على الأقل.
طريق طويلة وحزينة
فالدعم، وإن وصل بكل الطرق الممكنة، لا يزال بعيد المنال عند عدد من الدواوير المنتشرة في قمم جبال الأطلس، والتي تضررت من الزلزال العنيف، كما أن الإسعافات التي يجب أن تقدم للمصابين بشكل مستمر لا تزال في حاجة إلى دفعة قوية بتلك الدواوير.
ويشرح الدكتور لهنا أن الأولوية يجب أن تنصب على الوقاية خاصة مع قرب دخول فترة البرد، إذ من المنتظر أن تكثر الإصابات المرتبطة بالجهاز التنفسي والهضمي، لذا لابد من التركيز على النظافة والتزويد بالغذاء والماء الصالح للشرب لتفادي حدوث مضاعفات غير مرغوب فيها في هذه الظروف بالضبط.
جهد كبير إذن تبذله فرق الأطباء والممرضين في مستشفى تحناوت للتعامل مع الحالات التي تصل من المناطق النائية، وجل إصابات الزلزال تكون كسورا أو رضوضا في الرأس أو الصدر أو الحوض والبطن أو في الأطراف السفلية.
فخلال الزلازل، يصبح البيت الذي كان مصدر الأمن والأمان، وحشا كاسرا يهدد بتهشيم رؤوس لطالما ألفت أمن سقفه وجدرانه.
عند عودتنا بدت الطريق حزينة لا حياة فيها، الدكاكين البسيطة بمركز تحناوت مغلقة، وبعض الأهالي لا يزالون متوقفين عند جنبات الطريق ينتظرون جثث ذويهم وأقاربهم.
ولم يبد لنا -ونحن نتأمل وجوه الناس على الطريق- وجه سي محمد الذي صبغته بسمرة أشعة الشمس الحارقة في "دوار الشمس"، وها هو الزلزال الذي لم تشهد المنطقة مثله منذ قرن، يضيف قسمات وعلامات حزينة على وجه العجوز السبعيني، الذي يبدو أنه غادر مع ابنه وأفراد أسرته المكان لدفن جثة القريبة التي أصبحت حكاية أخرى حزينة من حكايات زلزال إقليم الحوز المدمر.
(الجزيرة نت)