طوى الرئيس التركي رجب طيب أردوغان ما يمكن اعتبارها "آخر عقبة انتخابية في حياته السياسية"، إذ تكون السنوات الرئاسية الخمس المقبلة، التي منحه إيّاها غالبية المصوّتين الأتراك، الأخيرة في مسيرة حكم يُنتظر أن تدخل عشريّتها الثالثة؛ بالنظر إلى أن التعديلات الدستورية التي دفع بها للاستفتاء العام في 2017 تحدّ ولاية الرئيس في فترتين، إلّا في حال الذهاب لانتخابات مبكّرة بموافقة البرلمان.
وفي كلّ الأحوال، فقد كانت هذه العقبة الانتخابية الأكثر امتحانًا وصعوبة بالنسبة للرئيس التركي، بالنظر إلى تقارب الأرقام التي دفعت نحو جولة ثانية للمرة الأولى، قياسًا على سنوات دأب فيها مع حزبه على الانتصار المريح، وبالنظر أيضًا إلى حجم الملفات المتراكمة قبيل الانتخابات، والتي وضعت إدارته تحت السؤال، بعد ارتفاع التضخم وتراجع قيمة الليرة التركية، ثم الكارثة البشرية والاقتصادية التي تسبب بها الزلزال الذي ضرب جنوب البلاد في 6 فبراير/ شباط الماضي.
أردوغان، الذي نجح منذ بدايات حكمه في قيادة البلاد لنقلة اقتصادية وصناعية وتجارية وسياحية وعلمية، وعزز دورها السياسي في الخارج، ما جعله يحظى بالتفاف شعبي كبير سمح له بـ"تحجيم" دور المؤسسة العسكرية، وتخطي محاولة الانقلاب عليه صيف العام 2016، وفرض نظام رئاسي، اصطدم بفخ التضخم الذي تخطى نسبة الـ85 في المائة في الخريف الماضي، في أعلى مستوى له منذ العام 1998، ما انعكس سلباً على الشعب التركي وأدى إلى ارتفاع الأسعار بشكل كبير.
كما أن محاولة أردوغان توسيع دور تركيا الإقليمي والدولي جعلته يصطدم بالعديد من الدول العربية والأوروبية، وحتى الولايات المتحدة، لا سيما في ظل التدخل العسكري في سورية وفي ليبيا. لكن بعدما توترت العلاقات مع العديد من الدول على مدى سنوات، لجأت أنقرة في الفترة الأخيرة إلى سياسة إعادة تطبيع العلاقات مع الخارج.
من كرة القدم للسياسة
رغبة أردوغان بتتويج مسيرته بإكمال أكثر من ربع قرن من الحكم كللت بالنجاح أخيرًا، وكما في كلّ محطّة من محطّاته المفصلية السابقة، فقد استند الأمر بالأساس إلى رغبة الشعب التركي.
ولد أردوغان عام 1954 في إسطنبول، وأصوله تعود لمدينة ريزة على البحر الأسود. أنهى دراسته الثانوية في العام 1973، وبعدها درس في جامعة مرمرة في كلية العلوم الاقتصادية وتخرج منها عام 1981.
ينتمي أردوغان لـ"التيار الإسلامي"، لعب كرة القدم شاباً قبل أن يدخل عالم السياسة، وكان ناشطاً في اتحاد الطلبة الوطنيين الأتراك، وترأس الفرع الشبابي لحزب السلامة الوطنية الإسلامي في منطقة بي أوغلو في إسطنبول عام 1976، ولاحقاً ترأس الفرع الشبابي للحزب في إسطنبول حتى عام 1980.
وعقب إغلاق الأحزاب بعد انقلاب عام 1982، توقف عن العمل السياسي، ليعود إلى السياسة مجدداً مع تأسيس حزب الرفاه، واختير رئيساً له في إسطنبول وعضواً للقيادة المركزية. انتُخب عام 1994 رئيساً لبلدية إسطنبول لتكون انطلاقته الفعلية وازدياد شعبيته في البلاد، إذ حقق أردوغان نجاحات في البلدية زادت شعبيته. ونظراً لإلقائه شعراً دينياً في العام 1997 حوكم بالسجن وأنهيت رئاسته لبلدية إسطنبول ما زاد من شعبيته أكثر، وبقي في السجن 4 أشهر، ليخرج ويؤسس في العام 2001 مع أصدقائه حزب العدالة والتنمية.
في انتخابات العام 2002 تولى الحزب مقاليد الحكم في البلاد حتى الوقت الحالي بشكل متواصل في حالة نادرة بتاريخ تركيا السياسي. وتولى أردوغان رئاسة الوزراء عام 2003 بعد إزالة المنع السياسي بحقه، ثم رئاسة البلاد عام 2014، وانتخب مرة ثانية عام 2018 وفق النظام الرئاسي الجديد.
مشاريع اقتصادية وعمرانية ضخمة
يُحسب لأردوغان نجاحه في دفع البلاد نحو التطور في جميع النواحي الاقتصادية والصناعية والتجارية، وعمله على إطلاق مشاريع ضخمة في عموم البلاد وتطويره المؤسسات والبنية التحتية، إضافة إلى الصناعات الدفاعية.
وشيّد أردوغان جسوراً وطرقاً سريعة ومطارات، وجسر البوسفور الثالث، وأول محطة للطاقة النووية افتُتحت قبل أيام.
وخلال 20 عاماً، شهدت تركيا تشييد أكثر من عشرة ملايين مسكن، وهو رقم "أكبر من نصف ما تم تشييده في جميع بلدان الاتحاد الأوروبي مجتمعة خلال الفترة ذاتها"، كما قال أستاذ علم الاجتماع في جامعة أنقرة مليح يشيلباغ لوكالة "فرانس برس". وشهد الاقتصاد التركي ازدهاراً كبيراً منذ تسلم أردوغان الحكم، ما سمح بتحسين أوضاع الفقراء وتوفير إمدادات الكهرباء والمياه وزيادة دخل الفرد وتوزيع الثروة ونشر الرعاية الصحية وبناء مدارس ومراكز رعاية طبية.
كما عمل أردوغان على توسيع شعبيته داخل الشارع المحافظ، وخصوصاً بقرار السماح للنساء بارتداء الحجاب في الجامعات وفي الوظيفة العامة، إضافة إلى بناء مئات المساجد في البلاد. وسعى أردوغان لتحجيم تدخّل مؤسسة الجيش في الشأن السياسي، وواجه جماعة الخدمة المتغلغلة في مؤسسات الدولة.
تعرّض لمحاولة انقلابية من قبل أفراد في الجيش عام 2016 تمكّن من إحباطها، وعمل بعدها على اعتقال الآلاف من المؤسسة العسكرية ومحاكمتهم. كما أنه غيّر الكثير من القوانين وعدل الدستور، ومنها نظام الحكم في البلاد الذي حوّله من النظام البرلماني إلى الرئاسي.
سقوط في فخ التضخم
خارجياً، بدأ منذ 2005 محادثات لتحقيق انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي، وهي خطوة تعطّلت لاحقاً. وسعى أردوغان لتوسيع نفوذ بلاده في الخارج، سياسياً وعسكرياً، وشهدت السياسة الخارجية تذبذباً خصوصاً مع جيرانه والدول العربية، من سورية إلى مصر والعراق واليونان، وبعض دول الخليج. لكنه بدأ منذ نحو عام ونصف العام جهوداً لتحقيق مصالحة مع معظم هذه الدول.
أما في الصراع الأوكراني، فقد تمكن من الحفاظ على علاقات مع كييف وموسكو، وعرض نفسه وسيطاً بينهما، من دون أن يثير غضب حلفائه في حلف شمال الأطلسي.
غير أن أردوغان فشل نسبيا في المحافظة على استقرار الوضع الاقتصادي، خصوصاً مع الارتفاع الكبير للتضخم وتراجع سعر الليرة التركية، وارتفعت الأسعار، وبدت الحكومة عاجزة عن السيطرة على تراجع الوضع المعيشي.
وحاول أردوغان تدارك هذا الوضع، مع عمله على رفع الأجور للموظفين، وإطلاق وعود لتحقيقها في المرحلة المقبلة، ومنها جعل الأتراك يستفيدون من مشاريع النفط المكتشفة حديثاً وتوفير الغاز مجاناً. وطيلة الحملة الانتخابية، حشد أردوغان أنصاره في الميادين خصوصاً في المدن الكبرى، وتمكّن من حشد أكثر من مليون و700 ألف مواطن خلال تجمع كبير في إسطنبول في 8 مايو الحالي.
التحدي الأصعب للبقاء في السلطة
وقال الكاتب والصحافي غونغور يافوز أصلان، لـ"العربي الجديد"، إن أردوغان "استطاع الاستمرار في الحكم منذ 21 عاماً، ولديه قابلية كبيرة في إدارة الدولة، وتمكن من مواجهة انقلاب عسكري، فضلاً عن تغلبه على أزمات سياسية واقتصادية عديدة، وعلى الرغم من التطورات المحلية والإقليمية والدولية تمكن من الفوز بالانتخابات، وخرج من كل انتخاب بشخصية أقوى".
ولفت أصلان إلى أن "من نقاط قوة أردوغان إمكاناته في الخطابة وتأثيره في الشارع والجماهير وتنظيم قواعده الحزبية، أما نقاط ضعفه فتتمثل في الإرهاق بعد فترة طويلة من الحكم". وأشار إلى أن أردوغان ركز في حملته الانتخابية ضمن التحالف الجمهوري "على روح الشعب وقوة الدولة وتطوير خطاب عن مئوية تركيا، خصوصاً ما يتعلق بالصناعات الدفاعية والطاقة واكتشاف النفط والغاز والمسيّرات والدبابات والسفن الحربية بعناوين دفاعية قوية، وهو يمثل الاستقرار والاستمرارية للبلاد".
ويعزو الباحث في الشؤون التركية طه عودة أوغلو، في حديث لـ"العربي الجديد"، مقدرة أردوغان على الفوز رغم الانتكاسات الاقتصادية والمعيشية إلى "الكاريزما التي يملكها، والتي تلعب دوراً كبيراً (في التأثير على الشارع)، إضافة إلى الإنجازات التي قدّمها ومن خلالها أثبت أنه رجل المهام الصعبة في ما يتعلق بالاقتصاد والملفات الداخلية والخارجية".
على المقلب الآخر، لم يغفل الباحث الإشارة إلى أن الأخطاء التي ارتكبتها المعارضة ساعدت أردوغان بدورها، و"أي طرف يرتكب أخطاء مميتة في هذه المرحلة فهو الطرف الخاسر"، مشيراً إلى أن "التحالف الجمهوري (الذي يقوده أردوغان) لديه خبرة في إدارة هذه المرحلة".
(العربي الجديد)