نشرت مجلة "فورين أفيرز" (Foreign Affairs) الأميركية تقريرا طويلا عن مليشيا فاغنر، الشركة العسكرية الروسية الخاصة المقربة من الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، وتساءلت عن حاجة بوتين لها، وأوردت كثيرا من التفاصيل حول الصراع الخفي بين القوى للحفاظ عليها.
واستعرض كاتبا التقرير -أندريه سولداتوف وإيرينا بوروغان- التوترات التي اندلعت أوائل الشهر الجاري بين وزارة الدفاع الروسية ومجموعة فاغنر، إذ بلغت حدا أن شتم يفغيني بريغوجين زعيم فاغنر علنا وزير الدفاع الروسي سيرغي شويغو، وكذلك رئيس هيئة الأركان العامة، وقائد القوات الروسية في أوكرانيا، وهدد بسحب قواته من باخموت إذا لم يتم تزويده على الفور بمزيد من الذخيرة.
وتساءل التقرير عن سبب تسامح بوتين مع تصرفات بريغوجين الغريبة والمكان الذي يناسب فاغنر فعليا مع التسلسل الهرمي للجيش والاستخبارات في روسيا، قائلا إن صعود فاغنر إلى الصدارة يُعد أحدث تطور في تاريخ طويل من الاعتماد الروسي والسوفياتي على القوات غير الرسمية، وضرب مثلا على ذلك بنجاح استخدام الرئيس الروسي الأسبق جوزيف ستالين مليشيات خاصة لدعم الجمهوريين في الحرب الأهلية الإسبانية.
وأوضح الكاتبان أن استخدام بوتين لفاغنر، قبل 8 سنوات، في الحرب الأوكرانية ليس غريبا على روسيا، وأن فاغنر أصبحت بالنسبة له وسيلة مهمة لكبح جماح الجيش، الذي لطالما اعتبره تهديدا محتملا لحكمه.
وأشار التقرير إلى أنه مع تزايد جرأة بريغوجين في انتقاده للقيادة العسكرية، بدأ عديد من المراقبين في التساؤل عن المدة التي يمكنه خلالها الاستمرار في ذلك. وقال إنه في الوقت الحالي، حافظت الاستخبارات العسكرية للجيش الروسي، التي تتبع لها فاغنر رسميا، على دعمها للمليشيا، إذ تعتقد أنها لا تزال مفيدة، وإن الجيش نفسه يواصل دعمه لها.
كما تم توجيه وسائل الإعلام الروسية الخاضعة للسيطرة الشديدة، بما في ذلك ما يُسمى "الفوينكرز" (مراسلو الحرب الروس المرتبطون بالجيش)، بالمساعدة في الترويج لفاغنر وأنشطتها في أوكرانيا. نتيجة لذلك، استمرت الصحف الموالية للكرملين حتى الآن في نشر المقابلات مع ضباط فاغنر التي تمجد الروح القتالية للجماعة.
ومع ذلك، يقول الكاتبان إن العامل الأكثر أهمية بالنسبة لفاغنر هو بوتين نفسه. ففي الواقع، هجمات بريغوجين المتكررة على اثنين من كبار قادة الجيش تبدو خارج الخط، ولا يفسرها إلا وجود دعم شخصي من بوتين.
وتساءل الكاتبان: لكن لماذا يعتبر بريغوجين ذا قيمة بالنسبة لبوتين؟ ليجيبا بأن التفسير يكمن في علاقة بوتين المعقدة بالجيش الروسي. فخلال سنواته الأولى في السلطة، كان أحد أكبر التحديات التي واجهها بوتين هو إبقاء الجيش تحت السيطرة.
وبوصفه واحدا من أكبر الجيوش في العالم في بلد شاسع حيث يتم كل شيء داخليا، فإن للجيش الروسي تقليدا يتمثل في التأكد من أن العالم الخارجي لا يعرف إلا القليل جدا عن أنشطته. وهذا يعني أن الأشكال المعتادة للرقابة الحكومية والعامة -سواء من خلال البرلمان أو تطبيق القانون أو وسائل الإعلام- لا تتم ببساطة في روسيا.
وخلال العقد الأول من توليه المنصب، سعى بوتين إلى إحكام قبضته على الجيش من خلال تعيين الجنرال السابق في الاستخبارات السوفياتية "كي جي بي" (KGB) صديقه الموثوق سيرغي إيفانوف وزيرا للدفاع. لكن بوتين اضطر إلى استبداله عام 2007، عندما أصبح من الواضح أن جهود إيفانوف لإطلاق إصلاح عسكري أكبر قد باءت بالفشل. وفي وقت لاحق، مع شويغو، وهو شخص غريب آخر عن الجيش، حاول بوتين مرة أخرى كسب مزيد من النفوذ.
ولكن الآن، وبعد أكثر من عام من الحرب في أوكرانيا، لا يوجد دليل على أن بوتين قد نجح مع شويغو أكثر مما نجح مع إيفانوف. وعلاوة على ذلك، يدرك بوتين أن الجيش يميل في زمن الحرب إلى اكتساب مزيد من القوة داخل الدولة. إنه يعلم أنه كلما استمرت الحرب فترة أطول، زادت هذه القوة، وقد يكون من الصعب عليه ممارسة السيطرة. وبما أنه يميل إلى النظر إلى العالم من منظور التهديدات، فإن القوة النسبية للجيش هي أمر يثير قلقه في بعض النواحي أكثر من أداء الجيش في ساحة المعركة.
ونتيجة لذلك، لجأ بوتين بشكل متزايد إلى أساليب غير تقليدية لكبح جماح الجنرالات. فابتداء من الربع الأخير من عام 2022، على سبيل المثال، شجع "الفوينكرز" على نشر المشاكل في الجيش، ودور فاغنر كقوة موازنة للجيش.
وبالنسبة إلى بريغوجين، على الرغم من الخسائر غير العادية التي تكبدها جنوده، فإن هذا وضع لصالح الجانبين، مليشيا فاغنر وبوتين. إذ إن بريغوجين يدرك أنه لن يشكل تهديدا سياسيا لبوتين أبدا، لأنه لا يتمتع بأي دعم آخر داخل النخبة الحاكمة الروسية باستثناء رعاية بوتين الخاصة. وكان بوتين حريصا على إبقاء الأمر على هذا النحو.
وقال الكاتبان إن ما لا يفهمه بريغوجين، وإلى حد أقل بوتين، هو أن روسيا اليوم ليست روسيا ستالين، وإن عديدا من قطاعات المجتمع الروسي، ولا سيما البيروقراطية في البلاد، تراقب مغامرات زعيم فاغنر برعب واشمئزاز. ففي الوقت الحالي، تحرق فاغنر ذخيرة أكثر من أي وحدة روسية أخرى، وإذا اتضح أن ذلك لم يسفر عن انتصارات ملموسة في ساحة المعركة، فإن هذه الحملة الهائلة التي استمرت شهورا، وراح ضحيتها آلاف الأرواح البشرية ودُمرت فيها كميات هائلة من العتاد الحربي، من الممكن أن تظهر وكأنها إهدار هائل للموارد الشحيحة.
وختما تقريرهما بالقول إذا ما كان بوتين سيرى فشل فاغنر، إذا فشلت، على أنه جريمة عقوبتها الإعدام، فهذه مسألة أخرى، وأشارا إلى أن بوتين يتمتع بسجل طويل في الاستخدام الفعال للبيروقراطيين والسياسيين الفاشلين، مثل استخدامه الرئيس السابق ورئيس الوزراء ديمتري ميدفيديف.
المصدر : فورين أفيرز