حينما اندلع الصراع في العاصمة السودانية الخرطوم قبل شهر تقريباً بين الجيش بأسلحته الثقيلة، وقوات الدعم السريع التي ولدت من رحم مليشيات مزودة بأسلحة خفيفة، بدا الأمر وكأن الحرب محسومة لصالح قوات الجيش.
لكن سرعان ما أدرك القائد العام للقوات المسلحة، الفريق أول ركن عبد الفتاح البرهان، أن سلاحي الجو والمدفعية وحدهما لن يوقفا جنود خصمه الذين تمكنوا من اقتحام مقر إقامته داخل مجمع قيادة الجيش في الساعات الأولى للقتال، وفقاً لما قالته عشرة مصادر من طرفي الصراع لوكالة "رويترز".
وقال أحد حراس البرهان الشخصيين، لـ"رويترز"، إن قائد الجيش حمل بندقية كلاشنيكوف وفتح النار بنفسه قبل أن ينقله رجال الأمن إلى مكان آمن، كاشفاً عن تفاصيل لم تنشر من قبل توضح كيف كان من الممكن قتل البرهان أو الإطاحة به في الأيام الأولى للصراع الذي اندلع في 15 إبريل/نيسان.
وقال الحارس، الذي طلب عدم نشر اسمه، إن مقاتلي قوات الدعم السريع قتلوا أكثر من 30 من حراس البرهان في المعركة التي تلت ذلك قبل أن ينسحبوا من المقر في العاصمة.
ولم يتسن لوكالة "رويترز" الوصول لممثلين عن الجيش وقوات الدعم السريع للتعليق على ما حدث في مقر إقامة البرهان أو على استراتيجية الجانبين.
وتسلط هذه الرواية الضوء على الأسلوب المفضل لخصم البرهان الفريق أول محمد حمدان دقلو، قائد قوات الدعم السريع، الشهير باسم حميدتي، وهو القتال من مسافات قريبة واستغلال نقاط القوة لدى قواته.
وبعد قرابة شهر من تفجر القتال، وعلى الرغم من الضربات الجوية شبه اليومية، لم يتمكن الجيش من طرد قوات الدعم السريع من العاصمة، حيث يتمركز مقاتلو حميدتي في مناطق سكنية وعدة مؤسسات رئيسية.
وعلى مدار السنوات العشر الماضية، تحولت قوات الدعم السريع من مجرد قوة متشرذمة من "مقاتلي الصحراء" إلى جيش مواز تقريبا له قواعده في العاصمة، ويملك ما يكفي من الإمدادات لإجبار البرهان على إجراء محادثات دون أمل في تحقيق نصر سريع. وانسحبت قوات الدعم السريع بسرعة من قواعدها في الخرطوم عندما اندلع القتال.
وأثار الصراع تساؤلات لدى عموم السودانيين حول كيف سمح الجيش لخصم له أن يتضخم بهذا الشكل خلال السنوات الماضية. ودفع الصراع الكثير من أبناء السودان إلى الهرب من العاصمة، وذهب البعض منهم إلى أقاربهم وأصدقائهم في مناطق ريفية، وفر البعض الآخر عبر الحدود إلى دول مجاورة.
وقال حسين أحمد، وهو يقف في صف طويل أمام أحد المخابز في الخرطوم: "لماذا يسمح الجيش لمليشيات بتهديد حياة الناس العاديين؟ أين كان قادة الجيش من كل هذا؟!".
وتهدف قوات الدعم السريع إلى جر الجيش إلى حرب شوارع في المدن تتمتع فيها مركباتهم المزودة بسلاح خفيف بأفضلية على الدبابات والطائرات الحربية. وخرجت قوات الدعم السريع من رحم مليشيات الجنجويد التي ساعدت نظام عمر البشير على قمع انتفاضة سابقة في إقليم دارفور بغرب البلاد، وكافأتها السلطة بتحويلها إلى قوة شبه عسكرية بموجب قانون.
وقال أحد مقاتلي قوات الدعم السريع عند نقطة تفتيش تابعة لهم في الخرطوم: "على البرهان وقواته أن يكونوا شجعانا ويحاربونا على الأرض وجها لوجه، بدلا من استخدام الطيران".
انتشار
وترك مقاتلو قوات الدعم السريع قواعدهم التي تتعرض للضربات الجوية في العاصمة ولجؤوا بدلاً من ذلك إلى الاحتماء في المنازل بعد طرد سكانها. ويقول سكان في الخرطوم إن قوات الدعم السريع توقف مركباتها قرب المنازل حتى لا يستهدفها الجيش بالضربات الجوية.
ولحميدتي عشرات الآلاف من المقاتلين في الخرطوم، لكن قوات البرهان الأكبر عددا منتشرة في جميع أنحاء البلاد، ونادرا ما تظهر في العاصمة، مما يعطي قوات الدعم السريع فرصة للتحصن.
واحتل رجال حميدتي مباني حكومية، مثل مقر وزارة الداخلية ومقرات الشرطة، واستولوا على إمدادات كبيرة من الوقود من مصفاة للنفط وعلى بنوك. ونشرت قوات الدعم السريع قناصة على أسطح المنازل.
واستولى مقاتلون آخرون في قوات الدعم السريع على منازل في حي راق بالخرطوم. والعديد من عناصر الدعم السريع مثلهم مثل قائدهم حميدتي ينتمون لقبيلة الرزيقات، أكبر القبائل في دارفور، ويدينون له بالولاء.
ولتشديد سيطرتهم على العاصمة، نصبوا نقاط تفتيش في جميع أنحاء الخرطوم، ويدققون في بطاقات الهوية ويفتشون السيارات والأمتعة. وقال سكان إنهم يفتحون الهواتف المحمولة للبحث عن اتصالات بالجيش.
واتهم سكان العاصمة قوات الدعم السريع بارتكاب أعمال نهب.
وعلى مدى السنوات الأربع التي تلت الإطاحة بالرئيس السابق عمر البشير في انتفاضة شعبية، تقاسم الجيش وقوات الدعم السريع السلطة بتوجس.
وترأس البرهان مجلس السيادة الحاكم الذي تشكل بعد الإطاحة بالبشير عام 2019، وأعيد تشكيله بعد انقلاب عسكري في عام 2021. وكان نائب رئيس المجلس هو حميدتي الذي صنع اسمه في صراع دارفور ووجه له سودانيون اتهامات بارتكاب فظائع.
وقبل اندلاع الصراع بين الرجلين، كان حميدتي، تاجر الإبل السابق الذي لم يتلق سوى قدر ضئيل من التعليم الرسمي، يتخذ بعض الخطوات، ومن بينها التقرب من تحالف قوى الحرية والتغيير، وهو تجمع سياسي مدني يقود عملية الانتقال إلى الحكم المدني.
ولمّح هذا التحالف أن لحميدتي خططاً سياسية بعد تعثر العملية الانتقالية، وحمّل البرهان ما وصفها بـ"طموحات حميدتي" مسؤولية اندلاع الصراع.
وقالت مصادر مقربة من حميدتي إن الرجل الذي جنى ثروة من تجارة الذهب يخوض معركة نفس طويل وحرب استنزاف تهدف إلى إتاحة الفرصة له ليصبح زعيما سياسياً من خلال المفاوضات.
وأسفر القتال منذ منتصف إبريل/ نيسان عن مقتل ما لا يقل عن 500 شخص وإصابة الآلاف، وعرقل وصول المساعدات، ودفع 100 ألف شخص إلى الفرار إلى الخارج، وحول المناطق السكنية في الخرطوم إلى ساحات حرب.
وتعهد حميدتي بالقبض على البرهان أو قتله، وانتهك الجانبان الكثير من فترات وقف إطلاق النار التي وافقا عليها. ولم تتمكن "رويترز" من تحديد المكان الذي يقيم فيه حميدتي حالياً، أو ما إذا كان البرهان لا يزال يستخدم مقرات الجيش لقيادة عملياته. ولم يكشف أي طرف عن عدد قتلاه.
(رويترز)