تمثل الصين حالياً الند الأبرز للولايات المتحدة الأمريكية على المسرح الدولي، فهل وصلت بكين إلى ذروة قوتها عسكرياً واقتصادياً؟ وماذا تعني تلك "الذروة" في إطار لعبة السيطرة على العالم؟
ربما يتبادر إلى الذهن أن المنافسة أو الصراع بين الولايات المتحدة والصين لا يختلف كثيراً عما عاشه العالم في ظل الحرب الباردة بين الغرب بزعامة واشنطن والشرق بزعامة موسكو خلال حقبة الاتحاد السوفييتي، والتي انتهت بتفكك الأخير وانتهاء النظام العالمي ثنائي القطبية، مفسحاً المجال أمام عصر الهيمنة الأمريكية.
بمعنى أن العالم الآن على وشك أن يشهد حرباً باردة جديدة طرفاها هذه المرة معسكر شرقي تقوده الصين في مواجهة المعسكر الغربي ذاته بزعامة الولايات المتحدة، لكن تفاصيل الصورة مختلفة للغاية، وبصفة خاصة من ناحية بكين وواشنطن تحديداً، وهذه الاختلافات توضح أياً منهما يتمتع الآن بذروة قوته عسكرياً واقتصادياً، وما يعنيه ذلك للعالم على المديين القصير والمتوسط.
هل وصلت الصين إلى قمة الازدهار؟
تعلمنا دروس التاريخ أن الأمم تشبه الإنسان في مراحله العمرية المختلفة، فالدولة تبدأ ضعيفة وهشة كالطفل ثم تبدأ مرحلة النمو والتطور حتى يصل منحنى القوة إلى ذروته، ومن ثم تبدأ مرحلة الهبوط والعودة إلى الهشاشة إلى والضعف.
وفي حالة الصين نجد أن مرحلة ما بعد ماو تسي تونغ، مؤسس الحزب الشيوعي الصيني الذي توفي عام 1976، كانت مرحلة الضعف والصعاب، والتي شهدت اتخاذ الدولة الصينية نهجاً مختلفاً، أكثر انفتاحاً اقتصادياً على العالم، وأكثر رغبة بعلاقات دبلوماسية وتجارية مع الغرب، بما هو في صالح الصين طبعاً، حتى تحولت البلاد إلى "مصنع العالم" الذي لا غنى عنه، ضمن نظرة غربية وأمريكية تحديداً إلى أن انفتاح الصين تجارياً سيعني يوماً ما تحريرها سياسياً، وخلق الظرف لخلق نظام ديمقراطي فيها.
وفي عام 2000 صرح الرئيس الأمريكي الأسبق بيل كلينتون بأنه "كلما تحرر الاقتصاد الصيني أكثر، فذلك سيعني تحرير المواطنين الصينيين وإمكاناتهم"، كما أنّ التوقع الغربي كان يدور حول أن العولمة وأدواتها، وتحديداً الإنترنت سيساعد في تنفيذ هذه المهمة، وتحويل الصين إلى حليف للغرب ربما، وعلى الأقل إلى جزء مهم في النظام العالمي في الاقتصاد، بحسب تقرير لمجلة Foreign Policy الأمريكية.
لكن مع تولي الرئيس الحالي شي جين بينغ المسؤولية في الصين قبل نحو عقد كامل، وإطلاق مبادرة الحزام والطريق عام 2013، ثم اتباع الدبلوماسية الصينية لما يعرف باستراتيجية "الذئب المحارب"، بدأ التنين يخرج من عزلته بشكل لافت لتبرز الصين لأول مرة كند قوي للقطب الأوحد ومستعد للإطاحة بذلك القطب من على عرشه.
ورصد تحليل لمجلة Foreign Affairs الأمريكية عنوانه "هل وصلت الصين لذروة قوتها؟"، ما قد يعنيه وصول بكين إلى الذروة فعلاً اقتصادياً وعسكرياً بالنسبة لعلاقاتها المتدهورة مع الولايات المتحدة من جهة، وبالنسبة لقضية تايوان من جهة أخرى.
إذ وصل التوتر وتدهور العلاقات بين بكين وواشنطن مؤخراً إلى مستويات غير مسبوقة، وأصبح هناك سيناريو محتمل يؤمن به الكثيرون من صناع القرار والرأي العام الأمريكي ملخصه أن الصين وصلت الآن إلى ذروة قوتها عسكرياً واقتصادياً، وهو ما يعني أن نافذة تحقيق أهم هدف في السياسة الخارجية للرئيس شي جين بينغ، وهو إعادة ضم تايوان إلى الصين، قد باتت مفتوحة، والأخطر أن تلك النافذة قد تغلق قريباً.
يبني أصحاب هذا السيناريو قناعاتهم اعتماداً على عدة حقائق، أبرزها المشكلة الديموغرافية الكبرى التي تعاني منها الصين ومشكلة أعباء الديون وتراجع القدرة على المنافسة في مجال الاختراعات ومشاكل اقتصادية أخرى، نتج عنها تباطؤ النمو الاقتصادي لبكين بالفعل، والمتوقع أن يستمر هذا التباطؤ مما قد يحرم الصين من القدرة العسكرية والاقتصادية اللازمة للاستمرار في تحدي أمريكا.
وفي هذا السياق، كتب الباحثان هال براندس ومايكل بيكلي تحليلاً في مجلة فورين أفيرز، جادلا فيه بأن "الصين تتبع نمطاً عادة ما ينتهي بشكل مأساوي يتمثل في صعود صاروخي يتبعه سقوط حاد"، مضيفين أن الصين لو أرادت أن تعيد تشكيل خريطة العالم "فإما الآن وإما لن يحدث أبداً"!
التركيبة السكانية.. مقارنة بين بكين وواشنطن
لكن هذا السيناريو الذي يؤمن به كثيرون في واشنطن قد لا يكون صحيحاً من الأساس. نعم، واجهت الصين تباطؤاً في النمو الاقتصادي خلال النصف الثاني من العام الماضي واستمر تقريباً حتى الربع الثالث من العام الجاري، ونعم هناك مشكلة ديموغرافية تواجهها البلاد، ونعم هناك أزمة ديون كبرى ومشاكل في أهم قطاعات الاقتصاد الصيني وهي العقارات.
لكن هناك عدة أسئلة مهمة لا بد من التوقف أمامها قبل القفز إلى الاستنتاجات، أهمها هو مدى قدرة الحكومة الصينية على "إدارة" تلك المشكلات، وهل تلك الأزمات مستعصية على الحل بشكل قاطع؟ والأهم هنا هو متى قد تؤدي تلك الأزمات إلى بداية مرحلة الانهيار أو السقوط؟ وكم قد تستغرق تلك المرحلة.
وأصبح انخفاض معدل نمو السكان في الصين يمثل الخطر الأكبر على الاقتصاد، إذ انخفض عدد المواليد الجدد في الصين بنسبة 15% في عام 2020 مقارنة بالعام الذي سبقه، مع ظهور فيروس كورونا الذي أثر على قرارات تكوين الأسرة، وارتفع معدل السكان من كبار السن بشكل لافت.
وإذا كان هذا العامل يمثل ضمانة مؤكدة على أن مسار الاقتصاد الصيني سيصل، في مرحلة ما، إلى منحنى الهبوط حتماً، تظل كلمة السر هنا هي متى؟ ولا توجد إجابة دقيقة بشأن التوقيت، لكن المؤكد هو أن عملية الهبوط ستكون تدريجية وليست مفاجئة، كما أنها لن تحدث على المدى القريب، بحسب تحليل Foreign Affairs.
وتواجه القوة البشرية العاملة في الصين تقلصاً بالفعل، وسيستمر هذا التقلص، كما أن معدل المواليد انخفض بشكل قياسي عام 2021، ويزيد متوسط الأعمار في الصين بنحو 6 أشهر عن نظيره في الولايات المتحدة، وقد تبلغ الزيادة 7 سنوات كاملة عام 2042، لتصبح شبيهة بمتوسط الأعمار الحالي في اليابان.
وسوف تزداد المشكلة الديموغرافية في الصين سوءاً بوتيرة أسرع خلال النصف الثاني من القرن، ليقل تعداد البلاد بأكثر من 200 مليون نسمة عام 2060، بحسب توقعات الأمم المتحدة. ومع الوصول لتلك الأرقام، سيصبح استمرار منحنى النمو الاقتصادي مستحيلاً بطبيعة الحال.
لكن حتى في ظل هذه الأرقام وانكماش عدد السكان، ستظل الصين ثالث أكبر اقتصاد في العالم، على أسوأ تقدير، وهو نفس ترتيبها خلال العقد الأول من هذا القرن، مع وجود اختلاف جوهري يتمثل في امتلاك بكين وقتها ثروات وقدرات تقنية تعادل ما تمتلكه أمريكا. لكن السيناريو الأكثر ترجيحاً هو أن تصبح الصين ثاني أكبر اقتصاد في العالم في ذلك الوقت، أي خلال النصف الثاني من القرن الحالي.
أما بالنسبة للمتوقع خلال العقد الحالي (حتى 2030)، فمن غير المتوقع أن تؤدي المشكلة السكانية في الصين إلى هبوط اقتصادي متسارع، فالانكماش في القوة البشرية العاملة في البلاد ربما يكون قد بدأ بالفعل منذ عقد كامل، ورغم ذلك تخطى النمو الاقتصادي نظيره في الولايات المتحدة، فلا أحد يعتقد أن نمو بكين الاقتصادي بلغ ذروته عام 2012 ولا عام 2018، والخلاصة في هذه النقطة هي أنه لا يمكن لأحد أن يتوقع منحنى هبوط حاداً للاقتصاد الصيني لا خلال العقد الحالي ولا حتى 2040 على الأقل.
وفي السياق ذاته، متوسط الأعمار المتوقع في الصين عام 2032 ستصل إليه الولايات المتحدة عام 2052، أي أنه لو أن المشكلة الديموغرافية عقبة كؤود تنتظر الصين، فالمصير ذاته ينتظر الولايات المتحدة، لكن حقيقة الأمر هي أن صحة الاقتصاد في البلدين تتحكم فيها عوامل أخرى بخلاف التركيبة السكانية.
أزمة الديون الحكومية
أحد أبرز العوامل المؤثرة في الاقتصاد، بخلاف التركيبة السكانية، هي أزمة الديون بشكل عام. وتواجه الحكومة الصينية بالفعل أزمة ديون مزمنة، لكنها ليست حادة. والأمر لا يختلف كثيراً عن نفس الأزمة في الولايات المتحدة. وفي الصين، بدأت أزمة الديون في التفاقم منذ الأزمة المالية العالمية عامي 2008 و2009، حيث أقرضت بكين القطاعات الاقتصادية غير المالية في البلاد مبالغ طائلة.
وبنهاية عام 2019، بلغت تلك المبالغ نحو 263% من إجمالي الناتج القومي للبلاد، مقابل 255% في الولايات المتحدة. وخلال جائحة كورونا، كانت الصين أكثر صرامة من الولايات المتحدة، لكن تظل أعباء الدين الحكومي لدى بكين أكبر من نظيرتها الأمريكية، بسبب ارتفاع متوسط أعمار الصينيين، وهو ما يعني ميزانية أضخم بكثير لأغراض الرعاية الاجتماعية والصحية.
لكن برغم تلك المعطيات، من المتوقع أن يكون تأثير أزمة الديون الحكومية في الصين على النمو الاقتصادي تدريجياً دون أن يسبب انهياراً مفاجئاً، ويظهر ذلك بوضوح في أزمة شركة إيفرغراند، عملاق العقارات الصيني، وقطاع العقارات بشكل عام، حيث تعاملت الحكومة الصينية، مع الأزمة بهدوء ونزعت فتيلها بسلاسة. ويعني هذا أن لديها فائضاً ضخماً من الأموال تستخدمه في القطاع العسكري والاستثمارات المرتبطة به كصناعة الأسلحة.
وبحسب البنك الدولي، أنفقت الصين 6.2 تريليون دولار عام 2019 على البنية التحتية والأراضي والمصانع، وهو ما يزيد عما أنفقته الولايات المتحدة بأكثر من 1.6 تريليون دولار في نفس العام. وعلى الرغم من أن توظيف الأموال الفيدرالية في أمريكا قد يكون أكثر كفاءة بهامش بسيط من التوظيف الصيني، إلا أنه لا أحد يشك في حقيقة امتلاك بكين لإمكانيات وموارد هائلة تحت تصرفها الآن وفي المستقبل.
أما العنصر الآخر في هذا السياق الاقتصادي فيتعلق بالاختراعات والإبداع بشكل عام. وعلى الرغم من التفوق الأمريكي في هذا الصدد، إلا أن الفجوة التقنية بين بكين وواشنطن قد أصبحت ضيقة للغاية خلال السنوات القليلة الماضية، بل حققت الصين إنجازات مذهلة فيما يتعلق بشبكة الجيل الخامس من الاتصالات، وأصبحت الخيار الأول لأغلب دول العالم، بما فيها الشركات الأوروبية والأمريكية نفسها، قبل بداية الحرب التجارية التي شنها الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب ويواصلها خلفه جو بايدن.
ماذا يعني ذلك للصين وتايوان والعالم؟
بالعودة إلى أصحاب سيناريو وصول الصين لذروة قوتها عسكرياً واقتصادياً، نجد أن المعطيات على الأرض تناقض الطرح من أساسه، فالصين لا تزال تمتلك وقتاً كافياً لمواصلة النمو والاستعداد لتحقيق هدف إعادة ضم تايوان، حتى وإن تم ذلك بالقوة العسكرية في نهاية المطاف، لكن دون أن تقع الحكومة الصينية فريسة لاتخاذ قرار نتيجة لاستفزاز أمريكي، كزيارة رئيسة مجلس النواب، نانسي بيلوسي. للجزيرة ذات الحكم الذاتي.
ففي يوم 2 أغسطس/آب الجاري، أصبحت نانسي بيلوسي أول مسؤول أمريكي رفيع المستوى يزور تايوان منذ عقود، رغم ما سبق الزيارة القصيرة من تصعيد في الحرب الكلامية بين واشنطن وبكين، وصل إلى تهديد الصين باستخدام القوة العسكرية في حال أصرت بيلوسي على الزيارة.
وكانت الصين وتايوان قد انفصلتا خلال حرب أهلية في الأربعينيات، وتعتبر تايوان نفسها دولةً ذات سيادة، وتحظى بدعم أمريكي وغربي، لكن بكين تصرُّ على أنها ستستعيد الجزيرة في وقت ما، وبالقوة إذا لزم الأمر. ولا يعترف بتايوان سوى عدد قليل من الدول؛ إذ تعترف معظم الدول بالحكومة الصينية في بكين بدلاً عن ذلك، ولا توجد علاقات رسمية بين الولايات المتحدة وتايوان، ولكن لدى واشنطن قانون يلزمها بتزويد الجزيرة بوسائل الدفاع عن نفسها.
وفي هذا السياق، استغلت الصين زيارة بيلوسي في تغيير الوضع القائم في مضيق تايوان وفرض وضع قائم جديد من خلال التدريبات العسكرية غير المسبوقة التي نفذها جيش التحرير الشعبي بأفرعه المختلفة وفرض من خلالها حصاراً كاملاً على الجزيرة، ليفرض وضعاً راهناً جديداً لم يكن له وجود منذ انفصال تايوان والصين عام 1947.
فقبل الزيارة كان لتايوان مياهها وأجواؤها الإقليمية، وكان دخول طائرات صينية إلى تلك الأجواء أو عبور سفن للمياه في مضيق تايوان بأقل من 12 ميلاً بحرياً من شواطئ تايوان يثير أزمة دبلوماسية كبيرة. وتجد بكين نفسها موضع اتهامات بأنها تسعى لتغيير الأمر الواقع بالقوة. صحيح أن الصين كانت تفعل ذلك من وقت لآخر قبل الزيارة، لكن بأعداد محدودة من الطائرات وعلى فترات متباعدة، وكانت تتعرض لانتقادات شديدة.
الصين إذاً ليست في عجلة من أمرها ولا تشعر أن نافذة قوتها توشك على أن تقفل نهائياً، كما يعتقد كثيرون في واشنطن، وهو ما يعني أن الحكومة الحالية في تايوان لا بد أن تكون أكثر حذراً في أي خطوة قد تتخذها على طريق الانفصال النهائي عن بكين، ففي نهاية المطاف، أثبت الحصار الأخير للجزيرة أن واشنطن ستفكر كثيراً قبل أن تتدخل عسكرياً بشكل مباشر للدفاع عن تايبيه، عكس ما كان بايدن قد صرح به خلال زيارته لآسيا قبل أقل من 3 أشهر فقط.
أما بالنسبة للعالم، فاحتمال أن تقدم الصين على شن هجوم عسكري بغرض ضم/غزو تايوان بالقوة يظل فكرة مرعبة بكل ما تحمله الكلمة من معانٍ، ولنا في تبعات الحرب الروسية في أوكرانيا نموذج مصغر.
(عربي بوست)