انتصف هذا العام ولما يقض الفلسطيني سامر الشاعر بعدُ نصف ما اقترض من المال ليدفع أجرة متجره السياحي في قرية سبسطية الأثرية، فقد سات أحوال عمله بفعل اقتحامات جيش الاحتلال ومستوطنيه المكان، والتي تصاعدت حدتها وتضاعف عددها، فضلا عن تخوفات يعيشها مع كل اقتحام بفعل إرهاب الجيش والمستوطنين على السواء.
وبصفته واحدا من سكان القرية الأثرية وفي ظل صعوبة الوضع الاقتصادي، لجأ الشاعر (47 عاما) للاستثمار بمنشأة سياحية صغيرة استأجرها من البلدية بنحو 6 آلاف دولار أميركي سنويا، وجهَّزها بمبلغ مماثل ليعمل فيها هو وأولاده الثلاثة، لكنه تفاجأ بسيل المداهمات الإسرائيلية اليومية واندلاع مواجهات أدت لتراجع كبير في عدد السياح، وبالتالي عدم وفائه بكامل التزاماته.
ويضيف الشاعر، أنه منذ بداية العام كثفت قوات الاحتلال استهدافها للمنطقة الأثرية في سبسطية، وتوزعت الاقتحامات بين الجيش والمستوطنين والإدارة المدنية وسلطة الحدائق العامة الإسرائيلية، وكانت في أوقات متفاوتة من النهار، ويتخللها إطلاق الغاز المدمع والذخيرة الحية.
ويصرّ الشاعر -في حديثه للجزيرة نت- على التأكيد أن "سبسطية آمنة"، متحديا ما يروجه الاحتلال للسياح بتحذيرهم من خطورة الذهاب لزيارة القرية وأنهم سيصبحون خارج نطاق تأمينه وحمايته، ويقول: "عندما يأتون يكتشفون زيف ادعاءات الاحتلال".
خطط التهويد
ويفرض الاحتلال الإسرائيلي سيطرته على 90% من المواقع الأثرية الفلسطينية، وفقا لإحصاءات وزارة السياحة الفلسطينية.
وتوثق بلدية سبسطية الاقتحامات بتفاصيلها، وتتصدى لها بقوة خاصة أنها تتم بشكل منظم بهدف ترسيخ مقصد الاحتلال ضم المنطقة الأثرية في سبسطية وربطها بمنطقة المسعودية القريبة، لإقامة "الحديقة الوطنية الإسرائيلية".
وأنشأ الاحتلال -لتسهيل اقتحام الإسرائيليين سبسطية- فنادق ونُزُلا في مستوطنة شافي شمرون القريبة، كما منع إحداث تغييرات كخدمات البنية التحتية أو أعمال ترميم في المكان من طرف الفلسطينيين، ولاحق المواطنين المستثمرين وهدم منشآتهم، وصعَّد من وتيرة الاقتحامات باستهداف المنطقة في العامين الأخيرين أكثر، ولا سيما بعد أن رممت بلدية سبسطية -التابعة للسلطة الفلسطينية- الساحة العامة الأثرية وجهزتها لاستقبال الزوّار.
كما أحال الاحتلال ملف سبسطية لدائرة الحدائق العامة الإسرائيلية التي يترأسها مجلس المستوطنات، والذي سهَّل بدوره وكثف اقتحام المستوطنين، وشرع قبل سنوات في إقامة "الشارع الدائري" حول المنطقة الأثرية الذي يمر عبر أراضي المواطنين، ويُسهِّل ضمها ويؤمِّن طريقا بديلا لخروج ودخول المستوطنين.
ويقول رئيس مجلس بلدي سبسطية محمد عازم إن الأهالي أفشلوا مشروع الطريق، إلا أن خطط الاحتلال مستمرة عبر ملاحقة المواطنين ومنع البناء السياحي والسكني وتقييد الموجود وإخطاره بالهدم، بينما يقدم خدمة "السياحة الاستيطانية" بتوفير منامات في المستوطنات القريبة من سبسطية.
وسطرت حكاية العلم الفلسطيني "ملحمة أخرى" من محاولات الاحتلال فرض السيادة على المنطقة الأثرية، وذلك بإنزاله وتدمير ساريته أكثر 150 مرة خلال العامين 2018 و2019، واستخدم لذلك المتفجرات لتدمير السارية داخل الموقع الأثري، وهذا "ممنوع ومجرَّم بالقانون العالمي"، كما يقول عازم.
وحتى بعد نقل المجلس البلدي العلم للساحة الرئيسية المصنفة ضمن مناطق "ب" الخاضعة للسيطرة الفلسطينية، أخطر الاحتلال بإزالتها، وهو ما يرفضه عازم ويعتبر أن سبسطية وحدة جغرافية متكاملة وأن القرار فيها للفلسطينيين.
تزوير المكان والزمان
وعام 1908، أجرت جامعة هارفارد الأميركية حفرية في سبسطية الأثرية، لكنها لم تثبت -بها ولا بغيرها- أي صلة لليهود بفلسطين، لتحاول إسرائيل عقب احتلالها الضفة الغربية عام 1967 البدء بتهويد القرية عبر "تزوير" أجزاء من الموقع الأثري، وبناء سلسلة حجرية لتكون واجهة للمدرج (المسرح) الروماني الذي يفوق عمره 3 آلاف عام.
وفي عام 1976، عمد الاحتلال لنقل القبور الملكية من وسط البلدة للساحة الرئيسية (البازليكا) لتفقد أهميتها كمقبرة، "فقيمة الموقع الأثري في مكانه" كما يقول عازم، ويضيف أن محاولة الاحتلال فشلت فتحطم جزء كبير من المقبرة.
كما استولى الاحتلال على أعمدة وتيجان وجلسات أثرية ونقلها إلى متاحفه في قيسارية المحتلة عام 1948، إضافة لتمثالين ضخمين سرقهما من مقام النبي يحيى عليه السلام.
وبتصنيفه للموقع الأثري ضمن المناطق "سي" الخاضعة لسيطرته الأمنية بحسب اتفاق أوسلو، جدَّد الاحتلال أطماعه في سبسطية، وصار يفرض أجندته بمنع البناء والترميم والإخطار بالإزالة، فنفذ منذ 2018 حوالي 30 عملية هدم لمنشآت سياحية واقتصادية، وهو يخطر بالإزالة الآن نحو 20 منشأة بينها 7 منازل.
هكذا يرد الفلسطينيون
وتتربع سبسطية -المدينة الأثرية الكنعانية التي يعود تاريخها إلى نحو 3 آلاف عام- على 5 آلاف دونم (الدونم يساوي ألف متر مربع)، نصفها تقريبا يصنفه الاحتلال مناطق "سي" ويضع يده على 400 دونم منها بشكل مباشر.
وردا على مخططات الاحتلال، شرع المجلس البلدي في سبسطية بخطته لإعمار وتنظيف المناطق الأثرية، كما أوصل لها خدمات البنية التحتية ولا سيما شبكة الكهرباء لجزء من المنطقة الأثرية، وهو يستعد لإعادة إحياء الموروث الثقافي عبر تفعيل العديد من الأنشطة، لكن الأهم -بحسب عازم- يبقى صد اقتحامات الجيش والمستوطنين وعمليات نهب الآثار التي يقوم بها الاحتلال عبر "لصوصه".
ثمة ما يقلق الاحتلال ويؤرقه من وجود الزوّار والسياح في سبسطية والذي قد يصل في بعض الأحيان إلى المئات يوميا، ولهذا صعَّد اقتحاماته وملاحقته للمواطنين.
المصدر: الجزيرة