"لقد قتلت كثيراً، قتلت كثيراً، ولا أعرف عدد الأشخاص الذين قتلتهم"، قبل أن يضيف "أنا فخور باللي عملته"، بهذه الجمل، يفخر أمجد يوسف وهو يتحدث عن الجرائم الكثيرة التي ارتكبها وأشرف عليها في شهر إبريل/ نيسان 2013، في حي التضامن، جنوبي سورية.
في هذا الشهر من هذا العام، قام فرع المنطقة التابع لشعبة الاستخبارات العسكرية، والمعروف أيضاً بالفرع 227، بقتل أكثر من 280 مدنياً اقتيدوا إلى أحد أحياء دمشق المعزولة، وجرى إعدامهم واحداً تلو الآخر في مقبرة جماعية كانت قد أُعدت مسبقاً، حسب تحقيق موسع نشر في مجلة نيو لاينز الأميركية، وهو من إعداد الباحثين أنصار شحّود وأوغور أوميت أونجور، العاملين في "مركز الهولوكوست والإبادة الجماعية" في جامعة أمستردام، وجرى الاعتماد على جهود الباحثين في تقرير نشرته صحيفة "ذا غارديان".
دليل لا يقبل الشك: المجزرة
ويظهر التحقيق كيف قام كل من أمجد يوسف ونجيب الحلبي، في 16 نيسان (إبريل) من العام 2013، بإعدام 41 شخصاً قرب مسجد عثمان في حي التضامن، عبر الإلقاء بهم في حفرة أُعدت مسبقاً لهذا الهدف في وسط أحد الشوارع "غير المأهولة" في حي التضامن، وبعد الانتهاء من إطلاق النار على الضحايا واحداً تلو الآخر، أضرمَ الجناة النار في جثث ضحاياهم عبر إحراق إطارات سيارات وُضعت مُسبقاً في قعر الحفرة. أُنجزت المجزرة في يوم واحد، وقام الجناة بتصوير تفاصيل المذبحة كاملة.
وخلال المجزرة، كان أمجد يوسف يرتدي زياً عسكرياً أخضر اللون وقبعة صيد، مبدياً درجةً عاليةً من التركيز والهدوء والدقّة الخالية من المشاعر. وكان يُنفّذُ "عمله" هذا "بكفاءة" عالية مُنجِزاً المهمة في غضون 25 دقيقة، فيما كان زميله نجيب الحلبي يرتدي زياً عسكرياً رمادي اللون وتبدو على ملامحه علامات الارتياح. كان يدخن، بل ويتحدث أحياناً بشكلٍ مباشرٍ إلى عدسة الكاميرا.
كانت عملية إعدام الضحايا تجرى بشكل روتيني تماماً، حيث يقوم أحد الجناة بإخراج الضحية معصوب العينين من سيارة بيضاء صغيرة مخصصة للنقل الجماعي «سرفيس»، ثم يقتاده إلى الحفرة الكبيرة المفروشة بالكامل بإطارات السيارات، ويلقي به في هذه الحفرة، ليقوم الآخر بإطلاق النار عليه من خلال بندقية حربية من طراز AK-47 وفي بعض الحالات بواسطة مسدس.
ويكشف التحقيق كيف كان ينفذ الجناة عمليات الإعدام بدم بارد، مع حديث متقطع، فيما يصرخون بالضحايا، "قوم"، "طلاع"، "مشي"، "اركض". ولم يُبدِ القتلة أي درجةٍ من درجات التعاطف مع الضحايا، بل يشير التحقيق إلى نوع من الاستمتاع أثناء القيام بعمليات الإعدام الميدانية. وخلال مجريات تصوير المجزرة، يتوجه نجيب إلى عدسة الكاميرا مخاطباً "رئيسه": "لعيونك يا معلم ولعيون البدلة الزيتية اللي م تلبسها".
ويستنتج معدا التحقيق أن الجناة "قد أعدّوا موقع الإعدام هذا بشروط مثالية من أجل استخدامه المتكرر، ليس فقط لتنفيذ عمليات الإعدام، بل وأيضاً من أجل إحراق الجثث وعدم ترك أي أثرٍ لها. كما يبدو أن مرتكبي المجزرة مرتاحون تماماً أثناء تنفيذ عملهم في وضح النهار، ما يشير إلى أن موقع المجزرة يقع تحت سيطرتهم الكاملة، حيث لا تبدو عليهم العجلة، وليسوا مُعرَّضين لأي تهديد".
وخلال المجزرة، يقوم الجناة بإيهام بعض الضحايا بأنهم يمرون عبر منطقة معرضة لنيران القنّاصة، فيصرخ نجيب بالضحية ويشتمه، دافعاً إياه نحو الحفرة ومُطلِقاً النار عليه بينما لا يزال في الهواء أثناء سقوطه. فيما يبدي أمجد درجةً من نفاد الصبر لأن أحد الضحايا لم يَمت لا من الطلقة الأولى ولا من الثانية، وبعد الطلقة الثالثة يصرخ مخاطباً الضحية بشتيمة. تُشير نهاية الفيديو إلى انتهاء هذه المجزرة حيث يسأل أحد الجناة: "في غيرو؟"، ليَسودَ صمتٌ لا يقطعه سوى أنينٌ خافتٌ صادرٌ عن كتلة الجثث تحت أحذية الجناة.
يستعرض التحقيق فيديو آخر، يظهر خلاله أمجد يوسف وهو يقود الجرافة التي تحفر المقبرة الجماعية بعمق ثلاثة أمتار، فيما "قُصف الشارع الذي وقعت فيه المجزرة في وقتٍ لاحق، ليبدو المشهد وكأنه دمارٌ شاملٌ جراء القصف والتفجير والاشتباكات. تظهر ثقوب الرصاص على الجدران، فيما تبدو الأجواءُ خلال الفيديو هادئة بدون أصوات للحرب أو القصف أو الاشتباكات؛ هدوءٌ لا تقطعه سوى أصوات طلقات النار التي تستهدف الضحايا، بالإضافة إلى الدخان المتصاعد من فوهات بنادق القتَلَة".
وخلال عمليات الإعدام، كانت أعينُ الضحايا معصوبة إمّا بشريط لاصق أو بغلاف بلاستيكي، كما أن أيديهم كانت مُقيَّدةً برباطٍ بلاستيكي يُستخدم عادة من أجل جمع وتثبيت الكابلات الكهربائية. ويرتدي معظم الضحايا ملابس غير رسمية، جينز وقمصاناً وبدلات رياضة ودشاديش، فيما يرتدي عددٌ آخرٌ منهم ملابس منزلية، ما يدل على توقيفهم إما من منازلهم أو من نقاط التفتيش القريبة إليها. كما أن الفقر المدقع يبدو على بعضهم، فيما البعض الآخر يبدو حسنَ الهندام.
كما تُظهر الفيديوهات أن هؤلاء الضحايا لم يتعرضوا لتعذيبٍ شديد، ولا وجود لعلامات هزال كالتي تظهر على المعتقلين الذين يحتفظ بهم النظام في معسكرات اعتقاله، ما يشير إلى حداثة توقيفهم. لا يُبدي الضحايا أية مقاومة تذكر، فهم يطيعون الأوامر بكل استسلام، يخرجون، يمشون ويقفون من دون أن ينطقوا ببنت شفة. قُتلَ الضحايا جميعاً بإطلاق النار عليهم، باستثناء رجل كبير في السنّ قتله أمجد يوسف ذبحاً.
كان الجناة يقومون بدفع البعض دفعاً، بينما يركل الآخرون إلى الحفرة ليُجرى إطلاق النار عليهم بعد أن تستقر أجسادهم فوق جثث من سبقوهم، وفي بعض الحالات كان يجرى إطلاق النار على الضحايا وهم في الهواء أثناء سقطتهم الأخيرة.
وفي مشهد آخر، عجوزٌ يسير مترنحاً ليرتطم بالجدار، وتنزلق قدمه في الحفرة مطلقاً صرخة ألم مستنجداً بوالده: «يا باي»، شابٌ يستطيع تحرير يديهِ من القيد أثناء سقوطه؛ امتدّت يده محاولاً رفع العصابة عن عينيه قبل أن يرديه أمجد برصاصة في الرأس. تتحرك بعض الأجساد في الحفرة وهي تلفظ أنفاسها الأخيرة، ولكن زملاء أمجد يوسف يمسكون بنادقهم "الكلاشنكوف" بيدٍ واحدةٍ، ويمطرون برصاصهم الجثث في الحفرة.
ست من الضحايا النساء السبع اللواتي يظهرنَ في التسجيل كُنَّ يرتدين الحجاب والمعطف اللذين يميزان النساء المسلمات التقليديات. هؤلاء النسوة كُنّ يقتلن بوحشية وعدائية لا يبديها القتلة تجاه ضحاياهم من الرجال. بشكلٍ مفاجئ تصرخ إحدى النساء صرخة استغاثة، ولكن نداءها لم يصل إلى أذني قاتلها، بل يشتمها بألفاظ بذيئة يعتذر "العربي الجديد" عن ذكرها؛ ثم يسحبها من شعرها ويلقي بها في الحفرة مُطلِقاً عليها النار. تصرخ امرأتان صرخة خوف وهلع، ليقوم أمجد بركلهما نحو الحفرة وقتلهما، فيما الأخريات واجهنَ مصيرهنّ بكل صمت.
في فيديو آخر، تتحرك عدسة الكاميرا فوق أجساد مجموعة من الأطفال وسط غرفة مظلمة، يتحدث أمجد يوسف قائلاً بإيجاز: "أطفال كبار الممولين في ركن الدين، تضحية لروح الشهيد نعيم يوسف"، في إشارة إلى أخ منفذ المجزرة، والذي قتل حسب أمجد خلال الحرب.
بلغ عدد الضحايا الإجمالي 288 ضحية في مقاطع الفيديو الـ27 التي بحوزة الباحثين، معظمهم من الشباب أو ممّن هم في منتصف العمر، بالإضافة إلى بعض الأطفال والنساء وكبار السن. وعلى الرغم من أن الغالبية العظمى من الضحايا هم من السنّة (بما فيهم التركمان)، إلا أن هناك مؤشرات تدل على أن هناك بعض الإسماعيليين بينهم استهدفوا نتيجة نشاطهم السياسي المعارض.
وحسب الشهادات التي حصل عليها معدا التحقيق، فإن الضحايا هم ممن اعتقلوا في حي التضامن أو على الحواجز المحيطة به، ليُجرى نقلهم إلى موقع المجزرة وتصفيتهم على تلك الشاكلة. "ومن المرجّح أن أياً منهم لم يتخيل حدوث ذلك، بل وربما اعتقدوا أنهم آمنون، أو أنهم حتى لم يفهموا بتاتاً سبب حدوث ذلك".
حوار مع المنفذ
الشاب "الصيّاد" واسمه على "فيسبوك" أمجد يوسف. وكان مسؤولاً عن حي التضامن، وارتكب العديد من الانتهاكات فيه خلال تلك الفترة، وكان اسمه دائماً يتردد مع بعض العناصر التابعين لمليشيا الدفاع الوطني، كون شارع نسرين هو جزء من حي التضامن الدمشقي الذي كان يتحدر منه بعض عناصر تلك المليشيا التي كان يقودها فادي صقر، المشارك في المجزرة".
ويروي التحقيق كيفية الوصول إلى المساعد أول في جيش النظام (36 عاما)، الذي يتحدر من قرية نبع الطيب العلوية في منطقة الغاب بريف حماة الغربي، بعد إنشاء حساب على "فيسبوك" لفتاة شابة موالية للنظام وتسميته بـ"آنا"، حيث "صُمّمت شخصية آنّا ومنشوراتها على فيسبوك بعناية لتتناسب مع المحيط الاجتماعي والاقتصادي للجناة أياً كانت هويتهم، فمن الصعب التشكيك في دوافع فتاة علوية من الطبقة الوسطى من حمص، تدرس النزاع السوري في الخارج. حققت آنّا نجاحاً باهراً، إذ مكّنتنا من إجراء مقابلات مع العشرات من الأسديين مرتكبي جرائم، بمن فيهم بعض الرتب الرفيعة نسبياً".
ويقول معدا التقرير إنه "عندما حصلنا على فيديو مجزرة التضامن، كانت آنّا بالفعل جزءاً لا يتجزأ من الدوائر الفيسبوكية الموالية للنظام، وقد شملت قائمة أصدقائها عدداً من الجنود ورجال المليشيات والضباط ورجال الأعمال والإعلاميين، بل وحتى بعض عناصر أجهزة المخابرات".
ويقول معدا التحقيق: "يمكن التعرف عليه بسهولة، بسبب ندبة أفقية على حاجبه الأيسر، نظر مباشرةً في فيديو المجزرة، وكانت صورته واضحةً جداً. وبعد تصفح ملفه الشخصي على فيسبوك، الذي ضُبطت منشوراته بحيث تكون متاحة للعموم، أرسلنا له طلب صداقة. كان بالتأكيد هو. لقد تغير مظهره الجسدي قليلاً، إذ اكتسب جسدُ مطلق النار النحيل ذي الزي العسكري بنيةً عضلية".
ويضيف التحقيق": كان ملفّه الشخصي على فيسبوك يطابق تماماً نمط منتهكي حقوق الإنسان السوريين، منشوراته كانت صوراً للأسد الأب والابن، لقطاتٍ لأصدقائه، مناظر خلّابة لقريته، صوراً شخصية أثناء ممارسته الرياضة في النادي، والأهم من ذلك كله، منشورٌ حزينٌ نعى فيه صديقه وزميله نجيب الحلبي"، والذي كان من السهل التعرف عليه على أنه مطلق النار الثاني. لقد غمرتنا البهجة إذ وجدنا "الشريكين" اللذَين بحثنا عنهما لأشهر".
وبعد لقاء أول لجس النبض، اعترف أمجد في اللقاء الثاني بجرائمه، قائلاً: "لقد انتقمت، أنا لا أكذب عليكِ، لقد انتقمت، لقد قتلت. لقد قتلت كثيراً، قتلت كثيراً ولا أعرف عدد الأشخاص الذين قتلتهم".
عندما واجه معدا التقرير أمجد بجزءٍ من الفيديو الذي يظهر فيه خلال قيامه بعمليات إعدام، "أنكر بدايةً أن يكون هو الشخص نفسه الذي يظهر في مقطع الفيديو، ثم قال إنه كان يقوم باعتقال شخصٍ ما فقط. ولكن في نهاية المطاف استقرّ على تبرير أنها مقتضيات وظيفته، وعبر عن مكنوناته: "أنا فخور باللي عملتو".
نجيب الحلبي: الذراع اليمنى لأمجد
كانت قائمة أصدقاء أمجد يوسف على فيسبوك أشبه بمعرض للقتلة، لكن ماذا عن القاتل الثاني، ذراع أمجد اليمني، نجيب الحلبي، المعروف بـ"أبو وليم"، كان نجيب في فيديوهات المجزرة يقف على حافّة القبر الجماعي، يدخن سيجارةً ويبتسم للكاميرا صانعاً علامة النصر بيده. لم يكن يُظهِر أي ضيقٍ على الإطلاق بينما يُعدم جيرانه الذين أمضى حياته بينهم، ويرمون في الحفرة.
"لا يمكنك توقّع أنه سيفعل ذلك. لقد صُدِمتُ عندما رأيت الفيديو"، يقول شخص كان يعرفه. مع هذا، فقد كان لنجيب أعداء. مات نجيب أثناء حفر نفق على الجبهة في العام 2015. ولا يزال سبب موته مثارَ جدلٍ حتى هذه اللحظة، فهناك من يعتقد أنه كان اغتيالاً دبّره له خصومه، وهناك من يلقي اللوم في موته على المعارضة.
لماذا فعلوا ذلك؟
يسأل التحقيق، في الختام، لماذا قام هؤلاء بهذه المجازر، ويقول إنه "لا يمكن تحليل هذه الفيديوهات والنظر إلى مطلقي النار بمعزل عن السياق الموسَّع لحصانة أجهزة المخابرات السورية والمليشيات الخاضعة لسلطة بشار الأسد المباشرة. وإذا ما أخذنا مجرمي الحرب على محمل الجد، فقد اعتبروا هذه المجازر جزءاً من التضحية المنبثقة من الانتقام لرفاق السلاح، مثل هشام عيسى وعمار عباس، زميلَيّ أمجد اللذين قتلا في وقت سابق.
ويضيف: "قال أمجد في أحد الفيديوهات، وفي المقابلة، إنه انتقم لأخيه الأصغر نعيم، الذي مات في داريا. وفي تصوير الجناة لهذه الفيديوهات نوعٌ من التذكار، وأيضاً دليلٌ على أنهم قد أتمّوا عملهم، وكان لأفعالهم هذه تأثيرٌ عميقٌ ومدمّرٌ على التضامن".
ويشير إلى أن فيديو التضامن، و"مقابلاتنا مع جناة الحرب، وشهادات الناجين"، أظهروا أن ما حدث في التضامن "قد ارتقى لعملية تطهير وحشية. وعندما تعمّقنا في البحث، أدركنا أن المجزرة كانت جزءاً من عملية موسعة ارتكبها النظام للتدمير والتطهير في أحياء دمشق الجنوبية. ولم تقتصر عملية الإبادة على المستوى المحلي في هذه المنطقة على نمط المجازر هذا، بل توسعت لتشمل على الأقل أربعة أنماط من العنف: القتل الجماعي الممنهج، والسجون، والاعتداءات الجنسية، والاستغلال الاقتصادي".
(العربي الجديد)