غطت سحابات دخانية السماء في قرية شارختار، المتاخمة لناغور نو قره باغ، بعد أن فضل سكان هذه القرية إشعال النيران في بيوتهم، على أن يتركوها للقوات الأذربيجانية التي ستصل بعد ساعات.
"إنه اليوم الأخير لنا هنا، غدا سيأتي الجنود الأذربيجانيون"، يقول أحدهم بصوت مختنق، بينما يلف كنزة عتيقة مبللة بالوقود في مقدمة عصا، يشعل النار فيها ويرميها باتجاه منزله، ليراه يحترق أمام عينيه.
في البداية، سرت ألسنة النيران بطيئة في سقف الصفيح. لكن لكي يكون متيقناً من أن لا شيء سيبقى سوى الأنقاض، يلقي الرجل البائس ألواحا وأغراضا تحترق من النوافذ.
"إنه منزلي، لا يمكنني تركه للأتراك"، وهي التسمية التي غالبا ما يطلقها الأرمن على الأذربيجانيين.
أفرغ الرجل منزله كله، ولم يترك فيه سوى طاولة بلاستيكية وقد بدأت النيران تذيبها.
"الجميع يحرقون منازلهم اليوم (...) أمهلونا حتى منتصف الليل للرحيل"، يقول الرجل قبل صعوده في سيارة رباعية الدفع لينطلق دون إلقاء أي نظرة إلى الخلف، مرددا أنهم "كلهم خونة".
في بداية الأسبوع الحالي، جرى التوصل إلى اتفاق سلام بين أرمينيا وأذربيجان برعاية روسية، ينهي آخر فصول النزاع، ويكرس الاتفاق المكاسب التي حققتها القوات الأذربيجانية على الأرض، وينص على التخلي عن مناطق إضافية لصالح باكو.
وتقع هذه القرية عند مشارف منطقة كالباجار، وهي عبارة عن واد يعبره نهر تاتار، أسفل مرتفعات جبلية ومنحدرات.
وتعد شارختار واحدة من أبرز المواقع المأهولة في المنطقة، وبلا شك فإن أكثر من نصف منازل القرية التي تعود في غالبيتها لفلاحين، جرى إحراقها في الساعات الـ24 الأخيرة على يد مالكيها.
كان المشهد ذاته يتكرر.. رجال يرتدون ملابس عسكرية عائدين من الجبهات، يملؤون سياراتهم العتيقة بما أمكنهم قبل إشعال النيران.
أما لمن لم يجدوا سيارة تحمل أغراضهم، على غرار سركيس الأربعيني، فقد يحرقون "كل شيء" كما سيفعل هو. ويضيف "سبق أن أشعلت النار بقفائر النحل، لم يعد لدي متسع من الوقت".
متى وكيف ستصل القوات الأذربيجانية؟ لا أحد يعرف. إلا أن السلطات المحلية في ناغورنو قره باغ أكدت للسكان أن طريق كالباجار تمثل حاليا المسلك الوحيد نحو أرمينيا، وأنها ستبقى تحت سيطرتها. وقد بدأ جنود روس يجوبونها.
ويعتقد سركيس أن الأذربيجانيين "سيصلون (إلى كالباجار) بطوافاتهم".
وعلى ذاك الطريق، تدور أحداث هجرة عظمى، حيث تزدحم بالسيارات المتجهة نحو مدينة فاردنيس الأرمينية الحدودية، عابرة ممر سوديتس على علو 2700 متر. ويبدو أن كل ما يمكن حمله من كالباجار، بات بصدد النقل.
وكانت شاحنات تحمل محولات المحطات الكهرومائية الضخمة، فيما آخرون يقصون أشجارا ويقطعونها لنقلها إلى أرمينيا حيث يمكن بيعها بأسعار جيدة. وكان رعاة أيضا يسيّرون بخطى سريعة قطعان أغنام وأبقار.
أما قاعدة كالباجار العسكرية فبدت مشرّعة، وكان الجنود يزيلون صفائح المرائب ويجمعون صناديق الذخائر وكل ما يمكن أخذه.
وكانت هناك أوراق تحترق في باحة الثكنة. وثمة ورقة معلّقة تنبّه باللغة الأرمينية "خطر ألغام!". وعلى الجدار، رُسم رأس خنزير وكتبت كلمتان باللون الأصفر وبأحرف واضحة للوافدين بعد قليل: "اللعنة على الأذربيجانيين!".