يمكن أن يصبح الهجوم الكيميائي على مدينة دوما السورية، في 7 أبريل/ نيسان الجاري، نقطة تحول في معادلة الأزمة السورية، وربما يؤدي إلى إعادة تقييم الدور الأمريكي في تلك الحرب.
إن استخدام الأسلحة الكيميائية في سوريا ليس جديدا؛ حيث ترددت أول تقارير عن مثل هذه الهجمات في الغوطة الشرقية قرب العاصمة دمشق، عام 2013.
وأسفر هجوم 2013 عن التوصل إلى اتفاق بين روسيا والولايات المتحدة للقضاء على أسلحة النظام السوري الكيميائية؛ ما ساعد موسكو بلا شك على جعل بشار الأسد يحتفظ بالسلطة، إذ تعلق الأمر باتفاق بشأن استخدام الأسلحة الكيميائية وحسب.
وبلا شك أدى هجوم دوما إلى تصعيد في سوريا طال انتظاره؛ فمع انطلاق الحرب ضد تنظيم "داعش" وحتى قبل عام من الآن، تمحور التنافس الأساسي بين واشنطن وموسكو حول من يدعي هزيمة "داعش" بشكل مرئي بالفعل.
وتكثفت المنافسة بين القوتين الكبريتين بشكل كبير عندما وصل دونالد ترامب إلى البيت الأبيض (في 20 يناير/ كانون الثاني 2017)، وتحولت حرب الكلمات إلى مواجهة بالوكالة.
والآن بعد أن أصبح "داعش" في حالة زوال، ولم يعد نظام الأسد مهددا بالتغيير، انزلقت روسيا والولايات المتحدة إلى المنافسة الكلاسيكية حول من تكون له اليد العليا في الشرق الأوسط.
توجد طرق عديدة قد تظهر بها المنافسة بين هاتين القوتين في سوريا، فقد سبق وأن اختلف البلدان حول إعادة إعمار سوريا.
وقالت الولايات المتحدة إن مساهمتها في إعادة البناء بعد الحرب مشروطة بـ"عملية سياسية عادلة في سوريا".
وهو أمر تعتبره روسيا بمثابة نهج يحتمل التلاعب من جانب طرف فشل في تغيير النظام السوري.
ما هو أكثر إثارة للقلق ليس الخلافات السياسية المحمومة بشأن سوريا، لكن المنافسة المتنامية على الأرض بين موسكو وواشنطن.
فمنذ سقوط "داعش" في مدينتي الرقة ودير الزور، شهدنا تحولا في ساحة المعركة السورية، مع ظهور ثلاثة أطراف متميزة هي: المعارضة المدعومة من تركيا في الشمال، وقوات سوريا الديمقراطية (عمودها الفقري تنظيم ي ب ك/ بي كا كا) المدعومة من الولايات المتحدة شرقي نهر الفرات، والحكومة السورية المدعومة من روسيا.
وبات يوجد الآن عدد أقل من الأطراف المتقاتلة في سوريا، لكنها أصبحت أكبر حجما؛ ما يجعل من الأسهل التفاوض وإبرام الصفقات معها.
يوجد شيء واحد أخطأته روسيا بشكل كبير، وهو أن شمال سوريا أصبح منطقة توسع للولايات المتحدة، وربما تنوي استخدامه كنقطة ضغط على حكومة الأسد، ومن ثم ضد إيران.
لفترة طويلة، كانت موسكو تنظر بعين الريبة إلى "قوات سوريا الديمقراطية" كمشروع أمريكي في سوريا، وكانت هذه القوات تدافع عن استقلالها الذاتي داخل سوريا، وإدراجها في عملية التفاوض، وهو أمر رفضته كل من تركيا ونظام الأسد.
لكن الوضع تغير جذريا بالنسبة لموسكو، حيث تستخدم الولايات المتحدة الآن المنطقة الخاضعة لسيطرة "قوات سوريا الديمقراطية" باعتبارها نقطة انطلاق لـ"دولتها البديلة" داخل سوريا.
وجاء اعتراف روسيا بهذا الأمر كتهديد للسلامة الإقليمية، خلال القمة الثلاثية الثانية، بين تركيا وروسيا وإيران في أنقرة.
بعبارة أخرى، فإن التوتر الذي كان يختمر منذ فترة طويلة بين روسيا والولايات المتحدة في سوريا لا بد أن يكون له مظاهر مادية ملموسة في نهاية المطاف، ويبدو أن الهجوم الكيميائي أدى إلى تسريع هذه العملية.
فقد وجدت كل من روسيا والولايات المتحدة نفسها في وضع غير مواتٍ نتيجة لهجوم دوما، ومن المرجح ألا يخرجان من هذا الصراع كطرفين يمكن أن يتقاسما المكاسب، فأصبح الوضع بمثابة معادلة صفرية ستتحدد بموجبها شكل الحرب السورية.
فإدارة ترامب لم يعد بوسعها ترك الهجوم دون عقاب، لكونه انتهاكا واضحا للخط الأحمر الأمريكي في سوريا، ولم يكن مختلفا عن الهجوم الكيميائي على بلدة خان شيخون.
مع ذلك، فإن معضلة ترامب هي أن الهجمات الدقيقة (الأمريكية والبريطانية والفرنسية) على المنشآت الكيميائية السورية المشكوك فيها (يوم 14 أبريل/ نيسان الجاري) ليست فعالة من حيث الردع.
لكن المؤسسة العسكرية بأكملها في الولايات المتحدة، وحتى منافسي ترامب، يعتبرونها مجرد "إجراء مناسب".
ويأتي التصعيد في سوريا على خلفية مناقشات في واشنطن حول إلى أي مدى يجب أن يظل الجيش الأمريكي منخرطا في النزاع السوري.
وفي الوقت الذي يدافع فيه ترامب عن ضرورة الانسحاب من سوريا في الوقت المناسب، فإن وزارة الدفاع (البنتاغون) تعارض هذا الخيار، وتطلب تعزيز الوجود الأمريكي في سوريا.
ويعني زيادة الانخراط العسكري الأمريكي في سوريا تحّمُل المزيد من المسؤولية عن مسار الحرب التي لم تنته بعد، مع الاستعداد لمزيد من المواجهة مع إيران وروسيا.
وأصبح هجوم دوما نافذة فرص قد يستخدمها مؤيدو التوسع العسكري لدفع ترامب إلى شن حملة أوسع ضد نظام الأسد، ربما بدعم من حلفاء دوليين.
في ضوء هذه الاعتبارات، فإن على إدارة ترامب أن تختار بين تدبير غير فعال وآخر كارثي، ولا يمكن لأي منها في الواقع أن يوصل رسالة ضرورية إلى نظام الأسد.
لا تبدو خيارات (الرئيس الروسي فيلاديمر) بوتين في سوريا أقل تشجيعا حاليا؛ فالضربات التي قادتها الولايات المتحدة على سوريا كارثية بالنسبة لروسيا، لأنها قد تستوجب نوعا ما من الانتقام، سواء عسكريا أو سياسيا.
وهذا هو الفرق الرئيسي بين الأحداث المرتبطة بهجوم خان شيخون الكيميائي واستخدام الأسلحة الكيميائية في دوما؛ حيث لم تشعر موسكو سابقا أنها مضطرة للرد على الإجراءات التي اتخذتها واشنطن ضد نظام الأسد، بسبب مخاوف من التصعيد، وبسبب حقيقة أن روسيا يمكن أن تستخدم هذه الضربة لصالحها.
مع ذلك، وضعت موسكو "خطوطها الحمراء" في سوريا، خلال السنوات الماضية، لأسباب ليس أقلها الضربات الجوية الأمريكية، التي استهدفت القوات المرتبطة بروسيا في دير الزور، في وقت سابق من العام الجاري.
وفيما يتعلق بالهجوم الكيميائي على دوما (78 قتيلا مدنيا)، لا تعتقد موسكو أن الأسد نفذ هجوما من هذا النوع؛ لأنها تعتبر أن ذلك يتناقض مع الوضع الراهن على الأرض و"نصر الأسد الوشيك في الغوطة الشرقية".
وفي حين أن إعطاء الضوء الأخضر للاستجابة العسكرية الأمريكية هو خيار سيء في حد ذاته، فإن الانتقام يمكن أن يثبت أنه خيار غير مرغوب فيه أيضا.
لا يتعلق السؤال بالنسبة لموسكو بإطلاق عشرات الصواريخ على سوريا، وهو ما يمكن أن تفعله، ولكن ماذا سيحدث بعد ذلك، وماذا سيحدث لو تم استهداف منصة إطلاق أمريكية.
هذا بالضبط ما قد يؤدي إلى حرب كاملة بين موسكو وواشنطن في سوريا.
وهناك طرف آخر في هذه المعادلة، وهو إسرائيل، التي دخلت الصورة فجأة عندما ضربت مطار (التيفور) السوري قرب حمص، في التاسع من أبريل/ نيسان الجاري.
حتى الآن، تمكنت روسيا من الحفاظ على توازن دقيق في علاقاتها مع إسرائيل، وأعطتها مساحة كافية للمناورة في جنوب سوريا، عندما كان أمنها مهددا.
بيد أن التوغل الإسرائيلي الأخير تسبب في غضب عارم في موسكو؛ لأن (رئيس الوزراء الإسرائيلي بينامين) نتنياهو نفذ عملا قتاليا لا علاقة له بإسرائيل.
ما يخشاه بوتين في الواقع هو أن تجعل واشنطن إسرائيل جزءا من جهد دولي أوسع ضد نظام الأسد، ما سيغير ديناميكية الحرب السورية، ويفرض الكثير من القيود على روسيا.
والهدف الأساسي لموسكو هو أنه يجب على روسيا وإسرائيل عدم الدخول في أي مواجهة عسكرية حول سوريا، وأن عمليات التوغل الإسرائيلية في سوريا سيكون دائما على عاتق الأسد أن يتصدى لها.
ويبدو أن كلا الطرفين (الولايات المتحدة وروسيا) في المرحلة الراهنة يريدان أن تنتهي الأزمة بسلام.
وكان لا مفر من الضربات الأمريكية، فقد يستخدمهما ترامب لتفادي الضغط من "البنتاغون"، وتجنب المزيد من النقاش حول التوسع العسكري في سوريا، في الوقت الذي أظهرت فيه روسيا مجددا التزامها بالتحالف مع الأسد وإيران.
ما هو حاسم لروسيا حاليا هو عدم ترك مبادرات التسوية السياسية تخرج عن مسارها، ولهذا السبب قد ترى موسكو أنه من الضروري إعطاء ترامب مساحة للتحرك في سوريا.