ما أن تتحرك الحافلة ببطء حتى تلصق طفلة وجهها بزجاج النافذة المطلة على أبنية مهدمة وأكوام ركام، إيذاناً ببدء رحلة اجلاء شاقة وطويلة تنقل آلاف المقاتلين والمدنيين من الغوطة الشرقية الى محافظة ادلب.
منذ بدء صعودهم الى الحافلات صباحاً حتى بلوغهم وجهتهم ظهر اليوم اللاحق، يعيش الهاربون من القصف والجوع ساعات انتظار طويلة تطغى فيها مشاعر الحزن على الأمل بالخلاص من معاناة استمرت لسنوات. ولا يعكر الصمت الذي يسود مطولاً الا صراخ أطفال أرهقهم الانتظار.
في مدينة عربين في جنوب الغوطة الشرقية، يتكرر منذ السبت المشهد ذاته. مقاتلون ومدنيون يتجمعون منذ ساعات الصباح الأولى استعداداً للرحيل، مع امتعة قليلة يحملونها الى الحافلات التي تصل تباعاً طيلة ساعات النهار.
ومع امتلائها، تنطلق كل حافلة إلى نقطة تجمع أخرى في مدينة حرستا، حيث يطول الانتظار حتى ما بعد منتصف الليل، بانتظار اكتمال القافلة لتنطلق إلى إدلب في شمال غرب البلاد في رحلة تستمر 12 ساعة على الأقل.
ويقول محمد عمر خير (20 عاماً)، احد المغادرين من على متن حافلة لوكالة فرانس برس، "توقفنا عند نقطة تحت سيطرة قوات النظام لساعتين أو ثلاث ساعات حيث جرى تفتيشنا والتدقيق بالأسماء، كما أخذوا مخزنين من الذخيرة من كل مسلح".
وتوقفت القافلة بعدها لأربع ساعات أخرى على طريق دولي على أطراف دمشق، وفق خير الذي يضيف "الشرطة العسكرية الروسية كانت مشرفة على كامل العملية".
خلال شهر من القصف العنيف الذي طال منازلهم ومحالهم وساحاتهم، وجد سكان الغوطة الشرقية في الأقبية مكاناً وحيداً يحتمون فيه. ومع تقدم قوات النظام في عمق مناطقهم، اختار عشرات الآلاف التوجه الى مناطق سيطرة قوات النظام مع تضييق الخناق على الفصائل ما دفعها الى القبول بالتفاوض.
وبموجب مفاوضات مع روسيا، تم منذ الخميس اجلاء أكثر من 17 ألف شخص من مقاتلين معارضين وأفراد من عائلاتهم ومدنيين آخرين من الغوطة الشرقية التي باتت قوات النظام السوري تسيطر على أكثر من 90 في المئة منها إثر حملة عسكرية بدأتها في 18 شباط/فبراير.
- شتائم متبادلة -
بعد توقف كل حافلة في نقطة التجمع الأولى في حرستا، ينتظر الركاب في حافلة تتدلى منها عناقيد عنب اصطناعية. ويتولى جنود سوريون من رجال ونساء تفتيش الحقائب والتأكد من احتفاظ المقاتلين بسلاحهم الخفيف في عملية تتم بإشراف عنصر من الشرطة العسكرية الروسية.
على متن احدى الحافلات، يمازح الشرطي الروسي بلباسه العسكري وخوذته وشارة حمراء على كتفه الركاب قليلاً ثم يطمئنهم أنها آخر عملية تفتيش سيخضعون لها.
بعدها تتقدم الحافلة قليلاً الى نقطة للهلال الأحمر السوري الذي يوزعه عناصره البسكويت والفستق وعبوات المياه على الركاب، الأطفال منهم خصوصاً.
مع الانتظار لساعات عدة، يشعر الأطفال بالضجر. طفل يبكي وآخر يلعب بستارة النافذة بينما يحاول رجل إجبار ابنته الصغيرة على الجلوس وتكرر أمرأة على مسامع طفلها كلمة "توقف!" لجعله يجلس.
وخلال الرحلة، يتحدث البعض مع اقربائهم عبر الهاتف لطمأنتهم على أحوالهم ومسار رحلتهم الطويلة.
على طول الطريق، تتوقف القافلة مرات قليلة بانتظار تبديل السيارات الروسية المرافقة لها، ويغتنم الركاب الفرصة للخروج وقضاء حاجاتهم.
وتخترق مناطق سيطرة القوات الحكومية من دمشق إلى طرطوس وبانياس غرباً ومنهما إلى حماة ثم ريفها الشمالي حيث منطقة التماس عند قلعة المضيق.
وبعكس مشهد الدمار الذي اعتادوا عليه في بلداتهم، تبدو مظاهر الحياة طبيعية خلال اجتياز الحافلات مناطق سيطرة القوات الحكومية حيث علقت صور للرئيس السوري بشار الأسد ووالده الرئيس السابق حافظ الأسد.
في محطات عدة، يتجمع السكان على جانبي الطرقات على دراجات نارية أو سيراً على الأقدام يراقبون الحافلات المارة أمامهم.
في آخر نقطة لقوات النظام في ريف حماة الشمالي واثناء مرور القافلة على حاجز أمني، يرفع جنود سبابتهم الوسطى للركاب الذين يبادر بعضهم الى الرد باطلاق الشتائم.
- "حولوا حياتنا إلى جحيم" -
خلال آخر ساعتين من الرحلة، يخيم الصمت على الحافلات وينام معظم ركابها من شدة الارهاق والتعب إلى أن يصلوا إلى نقطة التماس.
الى قلعة المضيق، تصل سيارات الاسعاف أولاً وخلفها الحافلات التي ينتظرها العشرات من المسعفين والمدنيين وممثلي الجمعيات الاغاثية والصحية.
يُسارع المسعفون الى نقل المرضى لنقطة طبية خُصصت لفرزهم قبل إحالتهم إلى مستشفيات المنطقة. ينتظر رجل لف رأسه بضماد أبيض على كرسي متحرك دوره، وتبكي طفلة على حمالة منادية والدتها.
يستريح البعض من تعب الرحلة الطويلة على الأرض بين أمتعتهم، تأكل طفلة الموز ويلعب آخرون حولها ببالونات وزعها عليهم الناشطون المحليون.
يغادر البعض في سيارات خاصة مع أقربائهم إلى أماكن سكنهم في محافظة إدلب، ولا يجد آخرون خياراً سوى الانتقال إلى مخيمات مؤقتة خُصصت لهم.
وفي عمليات إجلاء سابقة، انتقلت أعداد كبيرة من المدنيين والمقاتلين الذين تم إخراجهم من مناطقهم إلى مخيمات في ادلب، ومنهم من بقي فيها ومنهم من غادرها لاحقا. ويختار بعض المقاتلين ترك السلاح فيما ينضم آخرون إلى فصائل متواجدة في المنطقة.
وبعد وصوله، يقول محمد، أحد المدنيين المغادرين في العشرينات من عمره، "كان الوضع في الغوطة الشرقية مزر للغاية".
ويضيف "خلال 35 عاماً، حولوا حياتنا لجحيم مدقع، غيبوا عنا أبسط مقومات الحياة".