بينما تواصل بعض الأطراف في تركيا توجيه دعواتها للحكومة لعقد لقاء مع الأسد والتباحث مع وفوده بخصوص سوريا، يستمر نظام الأسد هجماته الوحشية على الغوطة الشرقية بدمشق والتي وصفها الجغرافيون العرب القدامى في كتبهم بـ "جنة الأرض".
كيف يمكن لأهالي الغوطة وحلب وإدلب، باختصار الشعب السوري، التعايش مع قاتله؟ هل يختلف هذا الأمر بشئ عن دفع المظلوم والمعتدى عليه للزواج من المغتصب؟.
كيف يمكن لـ "محمد خربوطلي" ذو الـ 70 عاما، صديقي وطالبي السابق في مركز تعليم اللغة التركية، أن يعيش مع الأسد مجددا، وهو الذي اضطر للجوء إلى السعودية خالي اليدين، بعدما كان من الأثرياء في بلاده في السابق.
حتى كتابة هذه المقالة، بلغت حصيلة مئات الغارات الجوية على الغوطة الشرقية خلال الأيام الثلاثة الماضية، حوالي 250 قتيلا، و800 جريحا، وللأسف هذا الأرقام قابلة للزيادة.
وتجري كل هذه الجرائم أمام أنظار العالم، وفوق كل ذلك تتم في المنطقة التي تعتبر تحت مراقبة روسيا بموجب اتفاقية مناطق خفض التصعيد التي تم التوصل إليها في مباحثات أستانة.
وأمام كل هذه التطورات، نرى بعض الأطراف التي أقامت الدنيا ولم تقعدها نتيجة إفتراءاتها التي تدعي أن الجيش التركي يقتل المدنيين في عفرين، تغض البصر من الجهة الثانية وتأخذ وضعية القردة الثلاثة (لا أرى، لا أسمع، لا أتكلم) عندما يتعلق الأمر بروسيا والنظام السوري والولايات المتحدة، تماما كما فعلوا إزاء الجرائم في البوسنة والعراق، فالطفل المقتول عندما يكون مسلما لا يحمل أي قيمة بالنسبة لهم.
من المرجح أن الأمين العام للأمم المتحدة، المسكين والعاجز، ألمح دون قصد لوصف الغوطة الشرقية بـ "جنة الأرض"، عندما قال أن المحاصرين وسط القصف في المنطقة "يعيشون في جهنم الأرض".
ومن جهة مقابلة، يشير المحاصرون في الغوطة إلى أنهم باتوا ينتظرون الموت، حيث أنهم حتى ولو سلموا من هجمات النظام فإنهم سيموتون نتيجة الجوع والأمراض، إذ يستهدف النظام المشافي على وجه خاص، تماما كما فعل سابقا في حلب وإدلب وسط صمت تام من المجتمع الدولي المتحضر.
تتشكل الغوطة من سهول تحيط بالعاصمة دمشق من 3 جهات، باستثناء الشمال حيث جبل قاسيون، وتشتهر على مر العصور ببساتينها الخضراء الواسعة، وتعتبر أراضيها من أخصب الأراضي الزراعية حول العالم.
ويصف الجغرافيون العرب القدامى المنطقة بأنها من أروع الأماكن حول العالم، إذ تشتهر بأنهارها وأشجار الفاكهة وبساتينها، وقصورها الفخمة التابعة لأثرياء دمشق.
ومع الزمن شهدت الغوطة تحولا عمرانيا مدنيا بشكل كبير، ومع ذلك بقيت منطقة التنزه الأولى بالنسبة لأهالي دمشق في أيام الربيع، قبيل اندلاع شرارة الثورة بالبلاد.
يمر نهر بردى وفروعه من الغوطة حيث يقسمها إلى قسمين، غربية وشرقية، إذ تضم الغوطة الشرقية ضواحي مهمة مثل برزة، ودوما، وعربين، وجرمانا، وكفر بطنا، وحرستا.
وتشير التوقعات إلى أن عدد سكان الغوطة الشرقية حوالي 400 ألف قبل الحرب، بعدما كان قرابة 50 ألفا في نهايات الدولة العثمانية، ونتيجة مغادرة حوالي ربع السكان من المنطقة بعد الحرب، بقي اليوم حوالي 300 ألفا.
وتتضمن الغوطة الكثير من الآثار التاريخية، إلى جانب عدد كبير من أضرحة الصحابة، كما كانت من أحب المناطق إلى قلب فاتح القدس، القائد صلاح الدين الأيوبي.
تعتبر الغوطة الشرقية من أهم مراكز معارضي النظام السوري مع بدء الاحتجاجات في البلاد عام 2011، كما تتمتع بأهمية استراتيجية كبيرة لقربها من العاصمة دمشق.
ومنذ أبريل/ نيسان 2013، تفرض قوات النظام السوري حصارا خانقا على الغوطة الشرقية، حيث تواصل غاراتها الجوية واستهدافها بالمدافع الثقيلة على المنطقة من جهة، وتعيق وصول المساعدات الإنسانية إليها بشكل كبير، من جهة ثانية.
وتحكم قوتان السيطرة على الغوطة الشرقية، تتشابكان بعض الأحيان مع بعضهما، أولها، فيلق الرحمن بقيادة النقيب المنشق عبد الناصر شمير، ويتبع للجيش السوري الحر، وتعتبر صواريخ تاو المضادة للدبابات من أهم الأسلحة التي بحوزتها.
أما الثاني فهو جيش الإسلام التابع للجبهة الشامية المدعومة من السعودية، ويمتلك صواريخ متنوعة، وأدت الصواريخ التي أطلقها على دمشق، إلى تكثيف النظام السوري من هجماته على الغوطة الشرقية.
ويرتبط المحاصرون في الغوطة الشرقية مع العالم الخارجي من خلال طريقتين فقط، أولها حاجز الوافدين في دوما، الذي يفصل بين قوات النظام السوري وعناصر جيش الإسلام، وثانيها، الأنفاق تحت الأرض بين ضواحي دمشق، والتي أغلق النظام السوري الكثير منها في الفترات الأخيرة.
ومنذ سبتمبر/ أيلول من العام الماضي، زاد النظام السوري من شدة الخناق أمام وصول مساعدات المنظمات الدولية إلى الغوطة، مقابل السماح لها بالدخول مرة واحدة في كل من نوفمبر/ تشرين ثان، وديسمبر/ كانون أول الماضيين.
ونتيجة للحصار الخانق ارتفعت أسعار المواد الغذائية في المنطقة بشكل كبير مقارنة مع دمشق، ما يجعل الأهالي يكتفون بوجبة واحدة من الطعام يوميا، حيث يعاني 300 ألف شخص في فقدان المواد الأساسية وعلى رأسها الخبز والأرز، ما يجعل المنطقة تشهد الكثير من وفيات الأطفال بسبب سوء التغذية، واستمرار حالات الوفاة لعدم إمكانية خروج المرضى من المنطقة.
تتعرض الغوطة الشرقية منذ زمن طول لهجمات النظام السوري بالبراميل والقنابل العنقودية والأسلحة الكيماوية، وحسب الأمم المتحدة، فإن 6 مشافي تعرضت للدمار، كما تعاني المنطقة من فقدان الأدوية والغذائيات الأساسية بسبب الحصار الطويل.
تطبق قوات الأسد بهذا الحصار طريقة تعود للعصور الوسطى، إذ تطرح خيارين فقط أمام الشعب في الغوطة، إما استسلام كافة المقاتلين في المنطقة، أو موت جميع الأهالي نتيجة القصف أو الجوع أو المرض، وفوق كل هذا يجري ذلك أمام أنظار المجتمع الدولي العصري والمتحضر.