وللفن المتصوف حضور
ومع اقتراب أذان المغرب، وبطلب من الجمهور، قبل الفنان ترديد أغنية صوفيه بعثت ألحانها الصوفية الموشحاتية خصوصية روحية فريدة،محملة بعبق وجداني شفيف...فمن أوتار ذلك العود واللحن الموشحاتي ارتفع صوت همس وجداني، وارتعاشات بوح داخلي بلغ بي مبلغ الوجد إلى حد البكاء.
بين مشهد الغناء العاطفي والموشحاتي...ومشهد الرقص الشعبي المصاحب...كان هناك مشهد وجداني ثالث ينبعث من روح الأستاذ أمين وعاطفته الجياشة، الذي ظل طيلة المقيل يمدني بدفعات من قاته المقطف والمغسول، بعد أن يكون قد اختار أفضل الأغصان وأحسنها، والتي ظل يقدمها بتفنن حميمي رهيب، من خلال تقديم الغصن الواحد تلو الآخر على طولوقت المقيل... ما هي إلا لحظات ويرتفع صوت أذان المغرب (حي على الصلاة)... من تلك المنارة القريبة التي تصدح بنداء التوحيد والإخلاص، وتدل الخلق على الخالق، لينفض هذا المشهد الفني على الفور ومن ثم الدخول بساعة استراحة للصلاة وتناول وجبة العشاء.
القائد المثقف
بعد صلاة المغرب قلت للأستاذ أمين: المعذرة منك يا أستاذ...نحن اليوم فرضنا عليك أن تعيش هذا اللقاء مع الفن...وربما كان هذا على خلاف مزاجك وأمزجة الشباب الذين معك...فرد علي مقاطعاً: على العكس...أنا اعتبر هذا اللقاء فتحاً... وليس فناً فقط...نعم (والحديث للشهيد) فلقد تمكنت أنا والشباب الذين معي من خلال هذا اللقاء التواصل مع معظم من نختلف معهم، ونتنافس نحن وإياهم في المؤسسات العامة، والمدارس، من ناصريين،واشتراكيين، وغيرهم...فبفضل هذا اللقاء (والحديث للأستاذ أمين) انخفض منسوب التوتر الذي كان بيننا إلى أدنى مستوياته... والفضل(والحديث للأستاذ أمين) بعد الله لك يا أستاذ فأنت الذي ضميت الجميع إلى هذا اللقاء بمختلف توجهاتهم... الأمر الآخر(والحديث للأستاذ أمين) أنا احترم أمزجة الآخرين وأقدر ثقافاتهم، وعاداتهم،وأحب أن أتعرف عليها، وأتعايش معها، فنحن لسنا من المريخ، بل إننا من هذا الواقع الاجتماعي، الذي هو واقعنا كلنا،والذي هو بدون شك واقع جميل بكل تناقضاته(انتهى حديث الأستاذ أمين)...أما أنا فبعد أن استمعت إلى الشهيد وهو يتحدث بهذا الحديث، فقد أدركت أنني أمام شخص مثقف، أو على الأقل شخص يحمل روح المثقف، واستعدادات المثقف، ومرونة المثقف...وأقصد بالمثقف هنا ليس المعرفي، أو المطلع على علم من علوم المعرفة ، لأن هناك فرق بين الثقافة والمعرفة... كما أن هناك أيضاَ فرق بين الإطلاع المعرفي، والمسار الثقافي...أقول هذا الكلام لأن الكثير يطلق وصف المثقف على صاحب الإطلاع المعرفي في بعض العلوم والفنون، وهذا غير صحيح، لأن الثقافة لا تعني الإطلاع على بعض مفردات المعارف بقدر ما تعني فهم واستيعاب البيئات، والأمزجة، والعادات، والتقاليد، والتراث،والبنى المجتمعية، وحركات المجتمع وتفاعلاته مع هذا الواقع البيئي المتعدد... وعلى هذا الأساس يمكنني القول بأن ظاهرة الرقص الشعبي التي سلطت عليها الضوء من خلال هذه الذكريات، هي في حقيقة الأمر جزء من مسار ثقافي يمني معين، له جذوره بالمجتمعات المحلية التي تمارسه، كما هو حال رقصة الدان اللحجية، أو رقصة البرع الصنعانية،أو الحقفة التهامية، أو العدة الحضرمية، أو رزفة أهل المشرق، أو الدبكة الشامية، أو العرضة السعودية، أو الكمبلا السودانية التي يمارسها أحياناً الرئيس عمر البشير مع جماهيره السودانية باستخدام العصي في كل احتفال أو مناسبة وغير ذلك من الرقصات الشعبية التعبيرية... ومن هذا المنطلق فإنه لا غرابة أن ظل الرقص عبر التاريخ يعبر عن حضارات الشعوب، ووسيلة حضارية للتعرف على تراث الشعوب وعاداتها، وتقاليدها...الأمر الذي يعني أن التعبير الجسدي من خلال هذا الرقص الشعبي التعبيري يمثل في حقيقة الأمر رؤية إنسانية لحالات الحزن، والفرح، وهو الجانب الأخر من الحياة الذي لا نعيشه، رغم أنه يمثل ثقافة جسدية بامتياز فمن خلاله تستطيع المجتمعات البسيطة استعمال ثقافتها والتعبير عنها عبر حركة الجسد بشغف وإحساس عاطفي كبير.
بعد أن تناولنا وجبة العشاء، كان الأخ أمين قد أستأذن بالمغادرة، وفعلاً غادر هو ورفاقه مودعاً بأكثر من حرارة الاستقبال التي استقبل بها، بعد أن كان قد سألني عن مكان المقيل في اليوم الرابع من العرس فأخبرته أنه في منطقة الشريجة حيث النقطة الحدودية وموطن العروس والأصهار.
للكرم حضوره الفاعل
في اليوم الرابع من العرس حضر إلي في البيت الأستاذ الشهيد قبل صلاة الظهر وأنا اتحفز لمغادرة الراهدة إلى الشريجة، وسلمني غترة محملة بسبع زرب كبيرة من القات الفاخر قائلاً لي: هذه الغترة تحملها معك إلى الشريجة وقد أشار إلى إحدى الزرب الفاخرة التي بداخلها قائلاً لي: أنت خزن بهذه الزربة... وأما هذه الزربة الثانية فسلمها إلى عمك الشيخ عبد الجليل... وبقية الزرب لضيوفك... وعندما طلبت منه مرافقتي إلى الشريجة أعتذر قائلاً أنه سيتوجه لزيارة بعض قرى القبيطة مع الشباب...وعلى إثر ذلك ودعته الوداع النهائي لعلي لا ألقاه مرة أخرى وفعلاً لم ألتقي به بعد ذلك اليوم إلا بعد مضي عدة سنوات.
بهذه الوقائع أكون قد تعرفت على الأستاذ الشهيد أمين الرجوي...باعتباره إما: مسؤولاً تنظيمياً لمديرية القبيطة، كما أشار إلى ذلك مدير الأمن السياسي... أو أنه أحد أعضاء الفريق القيادي العامل في هذه المديرية...أو أنه ضيفاً عليها قادماً من معهد الجند برفقة بعض الطلاب والشباب القاطنين في ذلك الشريط الحدودي بشقيه، الشمالي، والجنوبي،والذين يدرسون في معهد الجند.
هذه خلاصة بداية معرفتي بالأستاذ أمين وإلى تلك اللحظة لم أكن أعرف أنه من محافظة إب بل كنت أعتقد أنه من مديرية خدير بمحافظة تعز.
مرت ثلاث سنوات وقامت الوحدة اليمنية وتحقق الاندماج بين الشطرين ولم أعد أعرف أين ذهب الأستاذ أمين بعد ذلك..؟ وهل ظل طيلة هذه الفترة في مديرة القبيطة..؟ أو أنه تنقل في مديريات أخرى ثم عاد إلى القبيطة من جديد..؟ ...أو غير ذلك..؟ ...لا أدري...؟
قائد جماهيري.. ورجل تشبيك
في عام 1993م أجريت الانتخابات النيابية، على أساس التعددية الحزبية وكان قد أعلن حينها عن قيام حزب التجمع اليمني للإصلاح... في ذلك الموسم الإنتخابي تم استدعائي من إب للنزول إلى مديرية القبيطة لتحشيد الناس لإنجاح مرشح التجمع اليمني للإصلاح، وفعلاً غادرت إب متوجهاً إلى القبيطة وعند وصولي مدينة الراهدة كان في استقبالي الشهيد الراحل أمين الرجوي باعتباره المسؤول الأول عن التجمع اليمني للإصلاح في المديرية، وحينها تنقلت أنا وإياه في جميع عزل القبيطة وقراها، بهدف تحشيد الناس للتصويت لصالح مرشح التجمع اليمني للإصلاح...وأثناء الحملة الانتخابية تعرفت أكثر على قدرات الشهيد الراحل الخطابية، وقدراته على التأثير والاستقطاب، فضلاً عن قدراته في سرعة الاتصال الجماهيري والتشبيك،..وغير ذلك من القدرات النوعية التي كان من نتائجها فوز مرشح التجمع اليمني للإصلاح على منافسه بفارق كبير.
مكمن الجدلية
بعد إعلان النتيجة ودعت الشهيد الراحل للعودة إلى إب بعد أن كنت قد استكملت تعرفي عليه باعتباره من مديرية جبلة محافظة إب وهي المعلومة التي لم أكن أعرفها في السابق.
عدت إلى مدينة إب ومحيطها حيث مسقط رأس الشهيد الراحل، والتي أسكنها أنا فعلاً، وأمارس فيها عملي... في حين أن الشهيد الراحل يعمل في مديرة القبيطة ومحيطها حيث مسقط رأسي...وهنا تكمن جدلية علاقتي بالشهيد المغدور...رحمة الله تغشاه إلى قبره ولا نامت أعين الجبناء.
*الجزء الثاني ننشره بالتزامن مع مركز إعلام مقاومة إب