في خطوة جديدة نحو التخلي عن الدولار الأمريكي، أعلنت البرازيل والصين الأسبوع الماضي أنهما اتفقتا على استخدام عملتيهما المحليتين في التبادل التجاري فيما بينهما، بدلًا من استخدام الدولار.
جاء الاتفاق خلال منتدى أعمال صيني برازيلي رفيع المستوى عقد الأربعاء في بكين، ويعدّ خطوة جديدة تضاف لسلسلة من الاتفاقيات السابقة نحو التعامل بالعملات المحلية بدلًا من العملة الأمريكية، فيما تستمر الصين بضم المزيد من الدول إلى دائرة البلدان المتعاملة باليوان والعملات المحلية في التجارة الخارجية.
يلعب طرفا الاتفاق أدوارًا مهمة في شكل السوق العالمي، فالصين هي صاحبة ثاني أقوى اقتصاد في العالم بعد الولايات المتحدة، فيما تعتبر البرازيل أكبر اقتصاد في أمريكا اللاتينية، ويعدّ هذا الاتفاق هو الأول من نوعه الذي تعقده الصين مع إحدى دول أمريكا اللاتينية، لا سيما وأن بكين هي الشريك التجاري الأكبر للبرازيل، حيث بلغت قيمة التبادل التجاري بينهما نحو 150 مليار دولار العام الماضي.
وقالت الوكالة البرازيلية للترويج للتجارة والاستثمار (أبيكس برازيل)، في بيان، إن "هناك توقعات بأن هذا سيخفض التكاليف ويعزز التجارة الثنائية أكثر ويسهل الاستثمار"، علما أن الصين هي الشريك التجاري الأكبر للبرازيل، حيث بلغت قيمة التبادل بينهما نحو 150 مليار دولار العام الماضي.
كيف نفهم هذا الإجراء اقتصاديًا وسياسيًا؟
يعتبر الدولار الأمريكي العملة المعتمدة في معظم الحركات التجارية العالمية منذ الحرب العالمية الثانية، وهو ما يعطي الاقتصاد الأمريكي ميزة، لأنه يطبع الأوراق النقدية المستخدمة في التجارة الدولية، بحسب المحلل الاقتصادي فهمي الكتوت، الذي يقول إن هذا يشكّل فائدة للولايات المتحدة على حساب العملات المحلية في دول العالم، التي تكون مضطرة لشراء الدولار لتسديد تجارتها الخارجية.
وبحسب الكتوت، فإن اعتماد الدول على عملاتها المحلية يعزز من اقتصادها ويساعدها على تخفيف كلف التبادل التجاري بين الدول، لكن في ذات الوقت الوصول لهذه المرحلة من التخلي عن الدولار يحتاج إلى إجراءات وسياسات تتطلب وقتًا طويلًا.
يقول الباحث في الشأن الاقتصادي أنور القاسم لبي بي سي: "إن الاتجاه في التخلي عن الدولار ليس جديدًا في دول العالم، اذ سبقه إجراءات مماثلة بين دول عدة خلال السنوات الماضية، لكن الجديد في القرار الصيني البرازيلي، هو أنه يأتي بين دولتين كبيرتين اقتصاديًا، ما يعني أنه خطوة إضافية نحو إحداث تغيير في آليات التعامل الاقتصادي".
يقلل المحاضر في جامعة جورج واشنطن عاطف عبد الجواد من الآثار الاقتصادية للقرار، "حيث إن 60% من دول العالم لا تزال تستخدم الدولار الأمريكي كاحتياطي أجنبي في بنوكها المركزية. بالإضافة إلى أن التجارة العالمية والمؤسسات المالية الدولية والمؤسسات المالية التابعة للأمم المتحدة جميعها تعتمد على الدولار الأمريكي، ما يؤشر على القوة المالية والنقدية التي يتمتع بها الدولار ومن خلفه الولايات المتحدة."
سياسيًا، يقول عبد الجواد، إن هناك محاولات تتزعمها دول الصين وروسيا منذ فترة لإسقاط دور الدولار الأمريكي كرائد في التجارة العالمية، ويعود السبب لرغبة الدولتين في إضعاف هيمنة الولايات المتحدة على العالم سياسيًا واقتصاديًا وتكنولوجيًا، ضمن السعي لخلق نظام عالمي متعدد القطبية لا تتبوأ فيه الولايات المتحدة مركز الصدارة أو الهيمنة.
ما قدرة الصين والبرازيل على هذا الاجراء؟
يقول الكتوت لبي بي سي "إن هذا القرار سيعزز من اقتصاد البرازيل، بالأخص أن بكين هي أكبر شريك تجاري للبرازيل." لكن الكتوت يوضح إنه على الرغم من الفائدة التي ستعود على بكين، لن يكون من مصلحتها إضعاف الدولار الأمريكي إلى حدّ كبير، حيث أنها تملك أكبر احتياطي من الدولار في العالم بعد الولايات المتحدة، نظرًا لحجم التبادلات التجارية الكبيرة بين الدولتين.
يقول عاطف عبد الجواد إن الصين والبرازيل لا تعتمدان على التجارة فيما بينهما فقط، بل تتعاملان مع دول أخرى في العالم، وهو ما سيؤدي إلى أن يتم عزلهما تجاريًا، مستبعدًا أن تتمكن الصين من التخلي عن الدولار الأمريكي.
لكن لا يتفق الباحث في الشأن الاقتصادي أنور قاسم مع هذه الاعتبارات، لأن كلا الدولتين ستتعاملان مع الدول الأخرى بالدولار، كذلك يرى أن بكين تشكّل قوة اقتصادية لا يستهان بها، وسبقت دولًا كبيرة من ناحية الإنتاج الإجمالي القومي، كما أنها تتوسع في نفوذها الاقتصادي والسياسي في مناطق مختلفة في العالم، ما يجعلها تملك أدوات تغيّر من شكل وسير التجارة العالمية، ويضيف إنه إذا استطاعت الصين الحفاظ على نسب النمو الحالية، فإنها ستصبح الأقوى على مستوى العالم، وهذا يمكنها من التصرف بحُرية أكبر فيما يخص العملات التي تتعامل بها.
ويؤشر القاسم إلى العقوبات الأمريكية المفروضة على الصين، ويقول إن في هذا دليل على خشية الولايات المتحدة من النهوض الصيني اقتصاديًا وسياسيًا.
كيف يؤثر هذا الإجراء على الولايات المتحدة والعالم؟
بالنظر لعدد الدول التي لا تزال تستخدم الدولار الأمريكي كاحتياطي أجنبي في بنوكها المركزية، فإن القرارت باعتماد العملات المحلية في التجارة البينية بين بعض الدول سيكون قصير المدى، ولا يمكن أن يتأثر به الدولار الأمريكي وفق المحاضر في جامعة جورج واشنطن عاطف عبد الجواد.
على الرغم من أن البرازيل تشكّل نقطة محورية في حجم التبادلات التجارية، إلا أن مثل هذه الخطوات بين الصين والبرازيل لن تكون حاسمة في الوقت الحالي فيما يخص الأثر على الولايات المتحدة، كما يوّضح الكتوت.
ويقول إن الاتفاق البرازيلي الصيني الحالي يشكّل خطوة تراكمية لما تم تحقيقه خلال السنوات الماضية من حيث الابتعاد عن التعامل بالدولار.
واتخذت العديد من الدول في العالم خطوات مشابه في السنوات الماضية، حيث أعلنت البرازيل والأرجنتين استعدادهما لإطلاق عملة مشتركة بينهما تشبه اليورو. كما تعمل روسيا وإيران معًا على إنشاء عملة مشفرة مدعومة بالذهب لاستخدامها في التجارة العالمية. كما وقّعت الإمارات والهند اتفاقية تجارة حرة في العام الماضي بهدف زيادة المعاملات غير النفطية مع طرح فكرة إجراء تجارة غير نفطية باستخدام الروبية.
يصف أنور قاسم كل إجراء يتم فيه التحول عن الاعتماد على الدولار يزيد من الأعباء الاقتصادية الأمريكية، دون أن يؤثر عليها الآن بشكل مباشر، لكن سيسحب منها القوة الاقتصادية، والوزن السياسي مستقبلًا.
لا يتفق عبد الجواد مع هذا التحليل، ويؤكد أن الخسائر الامريكية لمثل هذا العمل ستكون ضئيلة للغاية، وسرعان ما سيتم التراجع عن هذه القرارات من قبل الدول التي لن تتمكن من الاستمرار في هذا النهج بحسبه.
يعتقد الكتوت أن الصين لا تفكر في إضعاف الاقتصاد الأمريكي، لكنها تريد أن تلعب دورًا في تقليل من هيمنة الدولار، ودفع الولايات المتحدة نحو القبول بشراكة في هذا المجال، للوصول لصيغ إقتصادية ومالية جديدة، عبر الضغوط التي تمارس من قبل بكين وروسيا.
هل يصل الأثر للسعودية؟
يقول الباحث في الشأن الاقتصادي أنور قاسم إن السياسية الاقتصادية السعودية فيها الكثير من المرونة حديثًا، والكثير من محاولات الخروج من السيطرة الأمريكية على الشرق الأوسط وعلى الاقتصاد النفطي والاقتصاد الخليجي بشكل كامل.
لكنه كذلك يعتقد أن تأثير القرار البرازيلي الصيني على الاقتصاد السعودي سيكون بسيطاً، لكن قد يؤثر بشكل فعال إذا ما اعتمدت المملكة العربية السعودية نفس الاتجاه الذي تفعله البرازيل الآن، وهو أمر مستبعد، ذلك أن الدولار متجذر في كل التجارة البينية والخارجية حاليًا، ويؤكد قاسم أن السعودية ستتريث كثيرًا قبل إتخاذ مثل هذا القرار.
هل الدولار مهدد؟
يقول عدة محللين في حديثهم لبي بي سي، إنه لا يوجد خطر على الدولار حاليًا، ذلك لأن العملة الخضراء لا تزال متجذرة في التعاملات بين دول كثيرة في العالم، وتدخل في مفاصل اقتصادية كثيرة.
يرى قاسم أن ما يحدث هو بداية قد تضم دولاً أخرى. حينها سيشكل ذلك قلقًا على الدولار، تحديدًا في حال اتفقت دول مجموعة بريكس لمثل هذه الاتفاقيات الثنائية فيما يخص التجارة البينية.
يصف الكتوت المرحلة الحالية بالانتقالية حتى يتم ترسيخ نظام عالمي جديد متعدد القطبية اقتصادياً وسياسياً، من أجل الوصول لصيغة جديدة تعيد النظر بدور الدولار، وتتوصل لاتفاقيات حول عملات جديدة أو سلة عملات أو عملة مدعمة من خلال البنك الدولي لكن بعد تعديل نظامه بحيث يكون هناك مساهمة لكل الأطراف القوية اقتصاديًا، بحيث يصدر عن البنك عملة جديدة وتكون هذه العملة من صلاحية هذه المؤسسة وليست من صلاحية دولة.
المصدر: بي بي سي