يعاني العالم من أزمات متعددة كل عام، بعضها يكون كوارث طبيعية والبعض الآخر يكون من صنع البشر، فلماذا يرى كثيرون أن 2022 كان العام الأسوأ منذ 1945؟
إذ شهد عام 2022، أحداثاً حفرت مكانها في التاريخ دون شك، منها الحرب في أوكرانيا التي أثرت سلبياً على جميع دول العالم وشعوبه، رغم أن رحاها تدور على الأراضي الأوكرانية حصرياً، باستثناء بعض الهجمات النادرة في العمق الروسي.
وعلى الرغم من أن الحرب في أوكرانيا، التي تصفها روسيا بأنها "عملية عسكرية خاصة" بينما يصفها الغرب بأنها "غزو"، ليست المرة الأولى التي يندلع فيها صراع مسلح منذ نهاية الحرب العالمية الثانية عام 1945، فإن اندلاعها في فبراير/شباط جعل عام 2022، واحداً من أسوأ الأعوام خلال تلك الفترة، إن لم يكن أسوأها على الإطلاق.
عودة أجواء الحرب الباردة
ترجع جذور أزمة أوكرانيا إلى أكثر من 30 عاماً، عندما تفكك الاتحاد السوفييتي ونالت أوكرانيا استقلالها، مع نهاية الحرب الباردة بين الغرب بقيادة أمريكا (حلف الناتو) والشرق بقيادة روسيا (حلف وارسو)، وشهدت تلك الأزمة فصولاً متعددة، كان أخطرها عام 2014 عندما ضمت موسكو شبه جزيرة القرم، لكن الحرب لم تندلع وقتها لأسباب متعددة، أبرزها رفض الاتحاد الأوروبي بزعامة أنجيلا ميركل، مستشارة ألمانيا السابقة، تصعيد الأمور.
لكن عندما بدأ العام الجاري، كانت أزمة أوكرانيا هي الشغل الشاغل للعالم أجمع، في ظل تقارير أمريكية وغربية تحذّر من أن روسيا تحشد قواتها على حدود أوكرانيا استعداداً "لغزوها"، بينما تقول موسكو إنها لا تسعى للحرب لكنها تريد ضمان أمنها القومي من الخطر الذي يتهدده.
والمقصود بهذا الخطر هو سعي حكومة كييف، برئاسة فولوديمير زيلينسكي، إلى الانضمام لحلف الناتو من جهة، وتشجيع إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن لهذا التوجه، وهو ما تعتبره موسكو تهديداً وجودياً لها.
وأشارت مراراً تقارير إعلامية روسية إلى أن بوتين وضع خطاً أحمر يتعلق بإلغاء حلف الناتو بزعامة الولايات المتحدة، لأي خطط تشمل ضم أوكرانيا إلى الحلف، وسعى خلال قمة افتراضية مع بايدن، قبل اندلاع الحرب بأسابيع، إلى الحصول على وعد أمريكي بهذا المعنى.
وترجع قصة "الخطوط الحمراء" بين روسيا والولايات المتحدة إلى نهايات الحرب الباردة بين الاتحاد السوفييتي السابق -الذي كان يتزعم حلف وارسو- والمعسكر الغربي وحلفه العسكري "الناتو" بزعامة الولايات المتحدة. وتناول تقرير لموقع Responsible Statecraft الأمريكي هذه القصة في تقريرٍ عنوانه "بوتين يرسم خطاً أحمر جديداً لمنع الناتو من التوسع شرقاً إلى أوكرانيا"، إذ كشفت وثائق أمريكية وسوفييتية وأوروبية رُفعت عنها السرية مؤخراً، أن وزير الخارجية الأمريكي، جيمس بيكر، أكد للرئيس السوفييتي، ميخائيل غورباتشوف، في عام 1990، أن الناتو لن يتوسع "بوصة واحدة" شرق ألمانيا، وآنذاك، كان هذا هو الخط الأحمر لروسيا.
لكن بعد ثلاثين عاماً، تحوَّل هذا الخط الأحمر من بوصة واحدة إلى نحو 965 كيلومتراً، بعد أن قال فلاديمير بوتين إنه يسعى للحصول على وعد بأن الناتو لن يتوسع شرقاً إلى أوكرانيا. رفض بايدن تقديم أي ضمانات لروسيا، فقرر بوتين شن ما يصفه بأنه "عملية عسكرية خاصة" واجتاحت القوات الروسية أوكرانيا يوم 24 فبراير/شباط 2022، لتندلع الحرب التي لا تزال مستمرة، ولا يزال خطر تحولها إلى حرب عالمية ثالثة قائماً بطبيعة الحال.
لماذا حرب أوكرانيا هي الأسوأ منذ عام 1945؟
شهد العالم بلا شك، منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية، حروباً وصراعات كثيرة حول العالم، كانت لها تبعات سلبية أثرت في حياة كثيرين، لكن الحرب في أوكرانيا هي الأسوأ في تأثيرها على العالم، ليس فقط لأنها أكبر حرب تشهدها أوروبا منذ عام 1945، ولكن أيضاً بسبب توقيت اندلاعها وطبيعتها الجيوسياسية.
ربما تكون ساحة تلك الحرب، حتى الآن، مقيدة بحدود أوكرانيا نفسها، لكنها حرب بين الغرب وروسيا، وتسعى من خلالها واشنطن إلى إضعاف موسكو للأبد والتخلص منها كمنافس جيوستراتيجي مسلح نووياً، ثم يكون الدور على الصين، التي تعتبرها الولايات المتحدة الخطر الأكبر على الهمينة الأمريكية على العالم.
وبالتالي فهي ليست مجرد صراع حدودي بين دولتين متجاورتين، بل هي صراع ذو طبيعة عالمية متعلق بمصالح القوى الكبرى في العالم، وهو ما يجعلها أقرب إلى حرب عالمية ثالثة بطبيعة الحال. وهذا بالتحديد ما عبَّر عنه ألكساندر دوغين، الفيلسوف الروسي الذي يلقبه الغرب بأنه "عقل بوتين"، في مقال له بعنوان "بدأت!"، والمقصود بالعنوان أن الحرب العالمية الثالثة قد بدأت بالفعل.
وفي هذا السياق، قدَّم الغرب، ولا يزال، تعزيزات عسكرية ضخمة وغير مسبوقة لإقناع أوكرانيا بمواصلة القتال رغم الفارق الهائل بين الجيشين الروسي والأوكراني، بينما يراهن بوتين على إرهاق خصومه الغربيين والضغوط الشعبية عليهم كي يتوقفوا عن إرسال المساعدات إلى كييف وإقناع الرئيس فولوديمير زيلينسكي بالعودة لطريق التفاوض، كما فعلوا من قبل وأقنعوه بمواصلة الحرب.
وها هو عام 2022 يلملم أوراقه ويستعد للرحيل دون أن تلوح في الأفق بوادر على أن صوت العقل سيتغلب على أصوات المدافع، فبايدن يستضيف زيلينسكي، وبوتين يجهز لجبهة جديدة عبر أراضي بيلاروسيا، مما يشير إلى أن الحرب قد لا تتوقف قريباً وأن فصل الشتاء المرعب قد يمر دون إقناع الغرب بالتوقف عن دعم أوكرانيا بما أن بوتين لن يتراجع مهما حدث، كما يقول أغلب المحللين الغربيين أنفسهم.
الجوع يضرب الملايين في عام 2022
تسببت الحرب في أوكرانيا بارتفاع أسعار النفط والغاز والحبوب بشكل مباشر، فروسيا منتج رئيسي من كبار منتجي الطاقة والحبوب. وبطبيعة الحال، أدى هذا الارتفاع في الأسعار إلى معاناة دول العالم، التي كانت تعاني بالأساس بسبب تداعيات جائحة كورونا، التي أصابت الاقتصاد العالمي في مقتل منذ تفشيها مطلع عام 2020، أي قبل اندلاع الحرب بعامين.
روسيا وأوكرانيا تنتجان معاً ما يقرب من ثُلث إمدادات القمح العالمية، كما تعتبر أوكرانيا من الدول الرئيسية المصدرة للذرة والشعير وزيت عباد الشمس وزيت بذور اللفت (زيت السلجم)، بينما تمثل روسيا وروسيا البيضاء، التي تدعم موسكو وتخضع أيضاً لعقوبات، أكثر من 40% من الصادرات العالمية من البوتاس الذي يستخدم كسماد.
كما يوفر برنامج الأغذية العالمي التابع للأمم المتحدة مساعدات غذائية لنحو 125 مليون شخص في العالم، ويشتري 50% من الحبوب من أوكرانيا، وناشد مدير البرنامج العالم أن يتدخل لإنقاذ عشرات الملايين حول العالم من الجوع.
فوفقاً لمنظمة الأغذية والزراعة التابعة للأمم المتحدة (فاو)، بلغت أسعار الغذاء العالمية بالفعل مستويات قياسية عالية، وقفزت الأسعار بمقدار 22% أخرى خلال عام 2022، بينما يُعَد القمح غذاءً أساسياً لأكثر من 35% من سكان العالم.
وزادت معاناة العالم من حجم أزمة الحبوب، لأنه من الصعب على بقية مزارعي العالم تعويض الفجوة التي سببها حرمان السوق من ربع صادرات القمح العالمية، التي توفرها روسيا وأوكرانيا معاً. وقلَّصت وزارة الزراعة الأمريكية منذ بدء الحرب، توقعاتها لتجارة القمح العالمية في الموسم الحالي بأكثر من 6 ملايين طن، أي أكثر من 3% من حجم التجارة عالمياً.
وعلى الرغم من عدم توافر أرقام دقيقة وموثوق بها بشأن مساحة الأراضي الزراعية التي تم تدميرها بفعل العمليات العسكرية أو تلك التي أصبحت ساحات معارك أو في مرمى نيران المدفعية، فإن جميع التقارير تشير إلى أن موسم الزراعة هذا العام في أوكرانيا قد تعرض لضربة قاصمة، ومع استمرار الحرب وعدم وجود مؤشرات على قرب نهايتها، تزداد الصورة القاتمة بالفعل قتامة وتشاؤماً بالنسبة للعام القادم أيضاً وليس فقط العام الحالي.
وبينما يعاني مئات الملايين حول العالم من الجوع والارتفاع الجنوني في أسعار الغذاء والسلع الأساسية، تتبادل أمريكا وروسيا الاتهامات بشأن المسؤول عن الكارثة أو الكوارث التي تضرب الكرة الأرضية.
التضخم وأزمة الديون
بدأت معاناة الاقتصاد العالمي منذ تفشي جائحة كورونا، التي أوقفت النشاط الاقتصادي حول العالم عاماً كاملاً تقريباً، وتسببت في ضربات قاصمة لقطاعات السفر والشحن والسياحة وغيرها. ومع التوصل للقاحات كورونا وبداية انحسار الجائحة، تنفس العالم الصعداء قليلاً وبدا أن الأزمة الاقتصادية في طريقها للانفراج.
لكن مع بداية عام 2022 والتوتر بسبب أزمة أوكرانيا، ثم انفجار برميل البارود واشتعال الحرب، ارتفعت أسعار النفط بصورة قياسية؛ مما أدى إلى ارتفاع أسعار جميع السلع ومعها تكاليف المعيشة، ليدخل الاقتصاد العالمي في أسوأ موجة ركود تضخمي يشهدها منذ الكساد الكبير في ثلاثينيات القرن الماضي.
وزادت أمريكا الطين بلة عندما رفعت أسعار الفائدة على الدولار، العملة الرئيسية حول العالم، لتنقذ ما يمكن إنقاذه من اقتصادها؛ فتسببت في كوارث مالية واقتصادية لأغلب الاقتصادات الناشئة، حيث سحب المستثمرون أموالهم من تلك الأسواق ووجَّهوها إلى السوق الأمريكية.
ويعني التضخم زيادة الطلب على السلع عن المعروض منها؛ ما يؤدي إلى ارتفاع الأسعار. فأسعار القمح، على سبيل المثال، تضاعفت منذ بداية الحرب في أوكرانيا، بسبب انخفاض أو توقف الصادرات، والأمر نفسه ينطبق على النفط أيضاً، وعلى الرغم من وجود عوامل أخرى بطبيعة الحال، فإن العرض والطلب يمثلان العامل الرئيس.
وأدى رفع البنك المركزي الأمريكي أسعار الفائدة، إلى تعزيز الطلب على الدولار؛ ما أدى إلى ارتفاع قيمة العملة بنسبة أكثر من 15% منذ بداية عام 2022، ووضع ذلك دولاً أخرى، خصوصاً الأسواق الناشئة التي لديها ديون كبيرة بالدولار، تحت ضغط هائل.
ففي أعقاب إقدام أمريكا على رفع سعر الفائدة، قلَّص البنك الدولي توقعاته للنمو في الاقتصادات النامية إلى 3.4% هذا العام بدلاً من 4.6% سابقاً، مشيراً إلى آثار ارتفاع أسعار الغذاء والطاقة والزيادة السريعة في تكاليف الاقتراض.
وتعاني دول كثيرة حول العالم من أزمة ديون غير مسبوقة تهدد استقرارها الاجتماعي ذاته، وتعتبر سريلانكا أحد النماذج الصارخة، لكن ما تعرضت له الدولة الآسيوية من إفلاس اعتبر رسالة شديدة اللهجة لعدد كبير من الدول حول العالم، منها دول عربية، منها مصر وتونس والأردن ولبنان.
وإضافة إلى الجوع والديون والتضخم، شهد العالم خلال عام 2022 إحياء صراعات كانت قائمة لكنها خاملة، مثل الأزمة التايوانية الصينية، وأزمة الحدود بين الصين والهند، بينما لا يخلو الشرق الأوسط من صراعاته التقليدية، مما جعل البعض يصنفون 2022 على أنها الأسوأ منذ عام 1945.
(عربي بوست)