يكتسب قطاع التمويل الأصغر في بلد مثل اليمن أهمية بالغة في الحد من البطالة وتوفير سبل العيش لشريحة واسعة من الفئات الأشد حرماناً في المجتمع. إذ تساهم هذه التمويلات بمساعدة المواطنين على امتلاك الأصول الإنتاجية المدرة للدخل، وسط آمال بالخروج من مستنقع الفقر وإطلاق مشاريع صغيرة تؤمن إيرادات تضمن توفير الحاجيات الأساسية للسكان.
إلا أن الواقع مختلف عما يتوخاه الناس، حيث طاولت نيران الحرب والصراع الدائر مختلف مناحي الحياة، إضافة إلى تعطيل مشاريع التنمية الاقتصادية. هذه العوامل زادت من تضييق سبل العيش وتعثر المقترضين عن سداد المستحقات، حتى لو كانت قيمتها رمزية.
إذ تواجه المشاريع الصغيرة والمتوسطة تحديات جسيمة نتيجة تراجع عملية التمويل واضطراب بيئة العمل. أدى ذلك إلى توقف الكثير منها وتعثر مؤسسات قائمة وتوسع فجوة الديون لديها، بالرغم من استئناف ما يقارب 30 في المائة من مشاريع التمويل الأصغر عملها بعدما توقفت في السنوات الأولى من الحرب.
مع ذلك كانت هناك تبعات كارثية للصراع الدائر خلقت الكثير من المخاطر التي تواجه مؤسسات التمويل الأصغر في اليمن ومشاريع عملائها بما فيها أضرار ناتجة عن قصف طيران التحالف واستمرار إغلاق عدد كبير من المشاريع، إضافة إلى التأثر بأزمات حادة في الطاقة والسيولة النقدية وتدهور العملة الوطنية وتراجع الأداء المالي لمؤسسات التمويل الأصغر.
هذه الأزمات أدت إلى تقلص فرص الإقراض، في المقابل ارتفعت نسبة القروض المتعثرة إلى حدود غير آمنة متجاوزة 55 في المائة من إجمالي التسليفات الصغيرة.
وبلغ عدد المقترضين النشطين من مؤسسات التمويل الأصغر حتى عام 2018 نحو 86 ألف شخص يستفيد من قروضهم مئات الآلاف من الرجال والنساء والأسر، وتمثل عوائد مشاريع عملاء التمويل الأصغر مصدر الدخل الرئيسي لحوالي نصفهم، وهي نسبة منخفضة مقارنة بعدد المقترضين قبل بداية الحرب في اليمن التي كانت تصل إلى أكثر من 200 ألف مقترض، وفق بيانات رسمية صادرة في العام 2014.
ويرى خالد المهيوب، الخبير المالي في المعهد العالي للعلوم المالية والإدارية (حكومي)، أن تدمير هذه الصناعة والمشاريع المدرة للدخل ساهم في توسيع حالة الإحباط وتدهور مستويات المعيشة لأغلب فئات المجتمع الناشطة إنتاجياً.
إذ أصبح الشبان العاطلون من العمل، حسب حديث المهيوب لـ"العربي الجديد"، أكثر عرضة للإحباط والتحول إلى وقود للمعارك الطاحنة، بينما كان انشغالهم بمشاريعهم الخاصة يبعدهم عن العنف، حيث إن انتشار المشاريع الصغيرة والمتوسطة يوفر بيئة داعمة للاستقرار.
ويحتل اليمن مرتبة متدنية جداً في الشمول المالي العائلي، فحوالي 6 في المائة فقط من البالغين في البلاد لديهم حسابات لدى البنوك مقارنة بـ18 في المائة في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، فيما هناك 1 في المائة فقط من اليمنيين يدخرون في مؤسسة مالية رسمية.
ويعتبر المهيوب أن اتساع دائرة المناطق المتأثرة بالعمليات العسكرية البرية والجوية يعيق عملية الإقراض في تلك المناطق ويعرض مؤسسات التمويل الأصغر للأضرار والإغلاق، مشدداً على أهمية إنقاذ هذا القطاع لتمكين الفئات الأشد فقراً وتضرراً من تأمين سبل العيش المستدام.
وتقود أزمة السيولة وأزمة الثقة التي تواجه القطاع المصرفي اليمني حالياً والحصار عليه من النظام الدولي نتيجة عدم الامتثال للأنظمة المتعلقة بغسل الأموال وتمويل الإرهاب إلى فقدان البنوك المزيد من العملاء رغم قلتهم أصلاً.
وتتزايد أهمية التمويل الأصغر في ظل اشتعال نيران الحرب وتفاقم الأزمة الإنسانية واستمرار أزمة انقطاع مرتبات موظفي الدولة في أكثر المحافظات اليمنية الذين يتوقون للحصول على مصادر دخل بديلة.
وحسب بيانات رسمية، فقد انخفض عدد المدخرين النشطين في مؤسسات التمويل الأصغر من 622 ألف مدخر عام 2014 إلى 510 آلاف مدخر عام 2015، أي بتراجع حوالي 18 في المائة، متأثرين بالصدمة الأولى للحرب الجارية على دخل المواطن ونفسيته.
ثم تزايد عدد المدخرين تدريجياً بعد ذلك حتى تجاوز عددهم عام 2017 ما كانوا عليه عام 2014، لكن العدد تراجع بنسبة تتجاوز 40 في المائة خلال العامين الماضيين.
وشكل عدد المدخرين أكثر من 8 أضعاف المقترضين عام 2017 نتيجة ارتفاع المخاطر الاستثمارية أثناء الحرب وعدم اليقين بالاتجاهات المستقبلية، وميل الأفراد لادخار أموالهم لمواجهة الاحتياجات المعيشية وتحسبا لتحسن مناخ الاستثمار بعد الحرب، لكن الأمر اختلف منذ نهاية العام 2018 وحتى مطلع العام الحالي، إذ إن هناك نقصا في ايداعات العملاء، ما يعكس تنامي احتياجات المواطن اليمني في ظل الأزمات الاقتصادية وما نجم عنها من تراجع في مستويات الدخل وتصاعد الأسعار، فضلاً عن تداعيات أزمة السيولة التي تعصف بالاقتصاد الوطني في اليمن حالياً.
فيما تراجع عدد المقترضين النشطين تدريجياً من 120 ألف مقترض عام 2014 إلى حوالي 85.9 ألف مقترض في يونيو/ حزيران 2018، بحوالي 28.4 في المائة، لأسباب أهمها توقف التمويلات الاستهلاكية لموظفي الدولة الذين انقطعت مرتبات الجزء الأكبر منهم، وتعقيد ضمانات القروض، إضافة إلى نزوح بعض العملاء من مناطقهم وتعرض بعض الأعمال للخسائر والتدمير، وصعوبة استئناف عمليات التمويل في عدد من المناطق الأكثر تأثراً بالصراع والحرب.
فضلاً عن تدني متوسط قيمة القرض وعدم كفايته للوفاء باحتياجات العميل لإقامة مشروعات خاصة في ظل تصاعد التضخم.
وحسب تقرير رسمي حديث اطلعت عليه "العربي الجديد"، فقد أدى تدهور قيمة العملة الوطنية وارتفاع سعر صرف الدولار الموازي بأكثر من 225.7 في المائة مقارنة بمرحلة ما قبل الحرب، إلى انخفاض القيمة الفعلية للقروض الممنوحة للمستفيدين من قبل مؤسسات التمويل الأصغر مقارنة بالقيمة الفعلية لأقساط القروض المسددة.
وكذلك، اضطرار مؤسسات التمويل الأصغر إلى منح قروض أكبر تحمل مخاطر أعلى، مع إبقاء أنواع أخرى من القروض عند سقوف منخفضة للتخفيف من المخاطر، إذ يشير التقرير إلى أن ذلك تسبب في امتناع بعض المقترضين عن الإقبال عليها كونها لا تفي بمتطلباتهم التمويلية في ظل انهيار العملة الوطنية.
ويأتي هذا في ظل سعر فائدة حقيقي سالب، أي أن سعر الفائدة الجاري أقل من معدل التضخم، وهو ما يقود إلى انخفاض نسبة العائد على محفظة القروض.
يشير خبراء إلى بعض مؤسسات التمويل الأصغر المحلية والتي تلتهم أكثر من نصف التمويلات الدولية المخصصة لليمن، لكنها لا تنعكس بشكل فعلي في برامجها ومشاريعها التنموية المنعدمة، والقروض عالية الكلفة والفوائد التي تقوم بدفعها، بالمقابل تتجاوز رواتب مدرائها وخبرائها ومسؤوليها الخمسة آلاف دولار للمدير أو الخبير الواحد، في ظل وضع معيشي قاس يجتاح بيوت معظم اليمنيين الذين تقطعت بهم السُبل ويعانون من الفاقة بعدما فقدوا رواتبهم وتوقفت أعمالهم ومصادر دخلهم.
يتحدث بسام عبد الوهاب، وهو ضابط مشاريع في منظمة محلية لتنمية المشروعات الصغيرة والمتوسطة، عن مواجهة هذا القطاع الحيوي الهام لأزمات مركبة ومعقدة في آن واحد، مثل أزمة الطاقة والوقود والكهرباء، والأهم أزمة سعر الصرف، إضافة إلى أزمة المرتبات، وشح السيولة، وتصاعد التضخم، فضلا عن انقسام السلطة النقدية، وهو ما نجمت عنه زيادة في نفقات التشغيل بالتزامن مع انخفاض الإيرادات، وبالتالي تدني الربحية والكفاءة الإنتاجية لمؤسسات التمويل.
ويعتبر عبد الوهاب، في حديثه مع لـ"العربي الجديد"، أن المستفيدين من هذه التمويلات والتحويلات النقدية والقروض أفقر الناس وأكثرهم ضعفا في اليمن، لذا فإن القيمة الحقيقية للتحويلات النقدية تتناقص مع مرور الوقت، حسب قوله، بسبب انخفاض قيمة العملة المحلية، وبالتالي الزيادة السريعة في أسعار المواد الغذائية الأساسية والخدمات، إضافة إلى تضرر مشاريع عملاء مؤسسات التمويل الأصغر من الاشتباكات والقصف المتواصل في اليمن منذ العام 2015.
المصدر: العربي الجديد