لم تنسَ اليمنية ابتهال الصلاحي تعليق عقد من المصابيح الصغيرة على شرفة شقتها في العاصمة المصرية القاهرة ابتهاجاً بشهر رمضان، وهي العادة التي اكتسبتها جراء إقامتها في القاهرة لسنوات طويلة.
أما داخل الشقة، فالزينة في كل ركن، وخصوصاً الفوانيس. وتقول: "نحاول إدخال بعض البهجة للتخفيف من وطأة اغتراب الأسرة عن الوطن"، وهو ما تراه في عيون أبنائها.
وتوضح في حديثها لـ "العربي الجديد": "يطالبني ابني بأن نفعل ذلك في رمضان المقبل في منزلنا في اليمن، ويأمل أن نعود للوطن قريباً بعدما يستقر، وهو أمل يراه بعين الطفل قريباً ونراه بعين الواقع بعيداً".
ومع تأثر الأسرة اليمنية بالعادات الرمضانية المصرية، إلا أنها لا تزال تحافظ على الأطعمة اليمنية، ولم تنس أن تتضمن وجبات رمضان الأطباق الرئيسية اليمنية، ولا تخلو مائدة الأسرة من الشفوت والحساء والكاتلس والسمبوسة، وقد عثرت على مكونات بعضها في الأسواق المصرية بصعوبة، لكنها تفتقد بعض الأطباق مثل العتر لندرتها، أو لارتفاع سعرها بشكل مبالغ فيه، ما اضطرها إلى تقليل الكميات أو تخفيض مرات طبخها للأسرة.
وفي تقليد مصري شهير ومعتاد أكثر في شهر رمضان، حصلت ابتهال على طبق مصري من إحدى الجارات يحتوي على حلوى شرقية، وبات يُطلق عليه، على سبيل المزاح، الطبق الدوار، أي الذي يدور بين الجيران محملاً بكل صنف تصنعه أسرة ما وترسله إلى الجيران. فيرده الجيران بعد وضع صنف آخر من صنعهم في عملية تبادلية لا تنتهي.
أحبت ابتهال العادة وأرسلت إلى الجيران طبق الشفوت المكون من خبز رقيق مخمر يطلق عليه في اليمن "اللحوح" وهو مشبع باللبن الرائب، بالإضافة إلى النعناع والثوم والفلفل والكزبرة الخضراء والخضار وحبات الرمان للزينة.
وكانت تخشى ألا يعجبهم مذاقها الجديد عليهم، إلا أن المفاجأة كانت في أنهم أبدوا إعجاباً كبيراً به، وطلبوا منها مقاديره وكيفية صنعه. تضيف: "مصر دولة يسهل العيش فيها والاندماج مع ناسها، وخصوصاً أننا نحمل القيم نفسها وتقاليدنا متشابهة".
وتكتظ القاهرة بعدد كبير من النازحين العرب، بدأت بالعراقيين عقب الحرب على العراق، ثم السوريين هرباً من بطش النظام السوري، ثم اليمنيين عقب سيطرة جماعة أنصار الله الحوثيين على العاصمة صنعاء، وأخيراً السودانيين عقب اندلاع الحرب هناك.
تبدأ مسرة، وهي ربة منزل سورية تقيم في الجيزة، حديثها مع "العربي الجديد" بترديد كلمات أغنية "رمضان في مصر حاجة تانية"، مضيفة أنها منذ أن جاءت إلى مصر قبل سنوات، وهي تشعر بأن شهر رمضان مختلف بالفعل عن سورية بل وعن بلدان أخرى زارتها خلال الشهر المبارك.
تضيف: "عاداتنا وتقاليدنا تتشابه مع إخواننا المصريين، ما يخفف علينا وطأة الاغتراب الذي امتد لنحو عقد من الزمان. ومع أننا في البداية لم نكن نستسيغ أن نصنع حلوى رمضان الشرقية، وأهلنا يبادون في سورية، لكن تدافع إخواننا المصريون لمحاولة التخفيف عنا بداية بتقديم أطباق الحلوى لنا.
ومع الوقت، صرنا نبادلهم الأطباق السورية، وعلى رأسها النابلسية، التي باتت جزءاً من مكونات المطبخ المصري".
تضيف مسرة: "نحن شعب واحد في بلدين، ومصر وسورية كانتا في فترات متقطعة من التاريخ بلداً واحداً. لهذا اندمجنا في مصر بسرعة، وخصوصاً في طقوس رمضان الذي صار موسماً للتباري في الطعام في ما بيننا رغم كل الأزمات الاقتصادية.
وأخيراً، استسلم المطبخ المصري للسوري والعكس، وصارت مكونات الاثنين متشابهة إلى حد كبير وانتشرت في المطاعم السورية في السوق، وبات المصريون يقلدون مكوناتها وعلى رأسها الشاورما".
ولم يقتصر الاندماج والتآلف مع طقوس رمضان على المصريين وضيوفهم، فقد تآلف الوافدون من اليمن وسورية والسودان معاً، لتنصهر العادات الرمضانية وتخفف من وطأة الاغتراب.
اعتادت أسرة إيمان حمد الطيب أن تحمل طعام الإفطار وتفترش به الساحة المقابلة لبيتها في الخرطوم، لكي تشاركه مع الجيران والمارة من الصائمين، كعادة أهل منطقتها في السودان.
وحين هربت إلى مدينة السادس من أكتوبر غرب القاهرة، فعلت الأمر نفسه. ولا يقتصر الأمر على الجيران من السودانيين، بل يدعو السودانيون الأشقاء السوريين ويشاركهم المصريون بأصناف طعامهم، لتصبح مائدة عربية بامتياز، مستغلين المساحات المفتوحة الواسعة التي تتميز بها أكتوبر كمدينة جديدة.
تضيف آمنة أن هناك تقاربا بين بعض العادات الرمضانية بين مصر والسودان، مشيرة إلى أن لدى السودانيين عادة شبيهة بموائد الرحمن المصرية اسمها "الضراء".
يخرج الجميع بطعام الإفطار إلى الشارع مع الجيران والأهل، ويقوم الرجال بفك عمائمهم ويحجزون بها الطريق لإجبار المارة على الإفطار من مائدتهم.
تضيف أن بعض ما خفف على السودانيين، وخصوصاً الشباب، ثقل فقدان رمضان بين الأهل هو استمرار بعض الأسر بهذه العادة، وخصوصاً في الحارات المصرية التي يكثر فيها السودانيون، فيفطر الجميع على مائدة واحدة.
وتقول إيمان، وهي سودانية تنشط في دعم ورعاية أبناء بلدها في مصر، إنهم اعتادوا أن يكون الأسبوع الثاني من رمضان مخصصاً لتبادل العزومات الأسرية في بيوت الأقارب والأصدقاء.
ومع تمزق الروابط بسبب تشتت الأسر والعائلات بين أكثر من بلد، وبين أكثر من منطقة في البلد نفسه، لم يتخل السودانيون عن عاداتهم، فصار الغريب قريباً يحل ضيفاً على مائدة الإفطار.
وعلى الرغم من اختلاف الذائقة، إلا أن الكثير من المصريين أحبوا مائدة الإفطار السودانية المكونة من العصيدة أو القراصة، مع الملاح والبليلة والطعمية، وسلطة الروب والشوربة، بالإضافة إلى المشروب السوداني المعروف الحلو مر.
ولا تجد إيمان أزمة في الحصول على المكونات اللازمة للمائدة السودانية، فهي متوفرة منذ زمن طويل، في ظل الوجود السوداني المتزايد في مصر حتى من قبل الحرب، ما يجعل ثمة سوقاً رائجاً لمكونات المائدة السودانية عموماً والرمضانية خصوصاً، وتضاعفت الوفرة بعد الحرب.
وتبدي آمنة، وهي سودانية مقيمة بشارع فيصل في الجيزة، دهشة من شعور بعض جيرانها بأن رمضان جاء فجأة. وتقول لـ "العربي الجديد": "نستعد لرمضان من بزوغ هلال رجب، لتبدأ التجهيزات للشهر الفضيل بتجميد اللحوم والخضار المتنوعة وتجفيف البهارات وأنواع الحبوب والعصائر مثل الحلو مر، والذي يستغرق تحضيره أسبوعين على الأقل.
ومع اقتراب شهر رمضان، يتزايد الميل للتكافل بين الأسر، رغم الوضع الاقتصادي المتدهور لمعظم العائلات السودانية، التي هربت بما تيسر من المتاع، ما ألقى بظلاله على الاستعدادات والتجهيزات لرمضان، كما أن البيئة في مصر غير ملائمة لإعداد بعض أنواع الأطعمة، لكن النساء السودانيات مبتكرات دائماً واستطعن استبدال شيء بشيء مشابه، بتعبيرها.
(العربي الجديد)