اكتسبت العمارة اليمنية المعاصرة هويتها من تكيُّفها مع بيئتها، وتمثّلها لتراث الممالك اليمنية القديمة، وفيما بعد القِيم الإسلامية، لجهة الانطواء على الداخل. ولكن؛ بدلاً من تحقيق عزلة وخصوصية البيوت باستخدام شكل الحصن، كما هو الحال في بيوت عُمان والخليج العربي عموماً، اتّجهت بيوت اليمن إلى التوسّع الشاقولي، عبر ابتكارات وحلول هندسية وصلت إلى فكرة ناطحة السحاب، في خطوة غير مسبوقة، استفادت من ضيق المساحات المُتاحة للبناء، بسبب الطبيعة الجبلية. ومع هذه الخصوصية، لاحظ الدارسون وجود عناصر تزيينية وزخرفية مشتركة مع أقاليم شرقي آسيا والقرن الأفريقي، بسبب العلاقات التجارية البحرية.
اليمن القديم
شهد اليمن القديم قيام عدد من الممالك الثرية اعتباراً من نهايات الألفية الثانية قبل الميلاد، وحتى الفترة السابقة للإسلام، كمملكة سبأ وعاصمتها مأرب، وممالك حضرموت، وقتبان، ومَعِين، وحِمْير. وخلّفت لنا مملكة سبأ بعض الصروح الدينية والمدَنية.
وتُشير النصوص التاريخية والأدلّة الآثارية المتوفّرة إلى وجود قُصور كبيرة غنية بالزخارف في عدة مدن، مثل قصر غمدان في صنعاء الذي أشار إلى وجوده الرحّالة والجغرافي ابن رستة في القرن العاشر الميلادي، وقصر ريدان في ظفار. وتعدُّ شبوة، عاصمة حضرموت القديمة، المدينة الأكثر احتفاظاً بـ البقايا العمرانية التاريخية بسبب اختفائها تحت الرمال، وعدم إشغالها بالأبنية الحديثة. وتشير الآثار المتبقّية من تلك الممالك إلى استخدام الحجر الجيري في بناء المعابد والقصور، إضافة إلى الطوب والطين المجفَّف بالشمس، والأخشاب.
سد مأرب
من عجائب الصروح العمرانية في اليمن القديم سدّ مأرب الذي أُنشِئ للمرّة الأولى في القرن السادس قبل الميلاد. وبيّنت الكشوف الأثرية أنه كان في نسخته الأُولى هيكلاً حجرياً يبلغ طولُه حوالي 580 متراً، وربما بلغ ارتفاعُه أربعة أمتار. وكان يقع بين تكوينَين صخريّين. وفي عام 500 قبل الميلاد تمّ بناء سدّ ثانٍ على شكل سُور مائل بمقطع عرضي مثلّثي، وبارتفاع سبعة أمتار. وفي أواخر القرن الثاني الميلادي قام الحِميريون بإعادة بناء السدّ بموادّ مختلفة، وهذه المرة بطول 720 متراً، وارتفاع 14 متراً، متضمّناً نظاماً هيدروليكياً أكثر تطوراً.
تم ترميم سدّ مأرب مرّات عدّة، آخرها في القرن السادس الميلادي، كما يدلّ على ذلك نقشٌ يعود لأبرهة يتحدّث عن الاحتفال الكبير في تدشين السدّ، وحضور ممثّلين عن ممالك ذلك الزمن. وبحسب قراءة الباحث اليمني مطهر الإرياني فإنه "في تاريخ شهر ذي الصراب من العام نفسه 657 من سني حِمير، حيث استجابت الحشود لدعوته واستنفاره ودان له أكثر الناس بالطاعة بما فيهم بعض العرب، ونتيجة لذلك توجّه الجميع نحو مدينة مأرب حيث قاموا بدايةً بتقديس كنيستها التي يقوم على شعائرها عدد من القسس في (مسلّتها) ثم إنهم انطلقوا نحو السدّ وباشروا العمل، فبدأوا بالحفر عميقاً لتجديد الأساس والجدران الاستنادية التي هي حصون البناء الحامية له، ولإعادة وضع المواثر على الصخر الصلد، وعند الشروع في تصحيح وبناء الأُسس القوية، إذا بمرض وبائي ينتشر بين جموع العاملين وفي المدينة أيضاً، فلمّا وجدوا أن المرض قد أخنى على الناس، فإنهم أبرهة ومن معه قد أذنوا للناس جميعاً، من أحباش وحِمْيريّين بالانصراف وحدّدوا لهم موعداً آخر للعودة".
ويُكمل: "مضى رَدْح من الزمن وصلته الوفود المهنّئة، وهي وفد صديق رفيع المستوى من النجاشي، ووفد رفيع المستوى من ملك الروم، وسفارة من ملك فارس، ومبعوثين من المنذر اللخمي، ومبعوثين من الحارث بن جبلة الغساني، ومبعوثين من أبي كرب بن جبلة الغساني (...). ثم إنه لمّا انحسر ذلك المرض وانقشع الوباء، بحمد الرحمن، فإن جموع القبائل قد وردت طبقاً لقرار الإذن بانصرافهم، فوصل الجميع في موعدهم حسب المدّة المحدّدة من قبل، وبمجرّد وصولهم باشروا العمل في ترميم السدّ وتجديده، ابتداءً من المداميك والمنشآت التي بناها، وجدّدها يعفر بن أبي كرب أسعد في سبأ والأقيال الذين كانوا مع الملك وأقرانهم من النظراء، وقد رمّموا وجدّدوا ما انهار من السدّ ومرافقِه ابتداءً من الأُسس القوية التي شقّ لها في الصخر الصلد، وانتهاء بقمة السدّ ونهايته العليا، وكان مقدار ما تم إنشاؤه وتجديده وتقويته ما يبلغ خمسة وأربعين ذراعاً طولاً، وبارتفاع خمسة وثلاثين ذراعاً بعرض أربعة عشر ذراعاً، تم كلّ ذلك جرباً وحرّاً للعرم، ومسراً وشصناً وتجديداً للبرونز خشباً غير القديم، علاوة على ما تمّ عمله من قبل في المقدمة". ويعدّد النقش النفقات التي دفعت لإنجاز الترميم.
معبد أوام
من الصروح العمرانية الباقية معبد أوام الذي يسمّيه العامة خطأً "محرم بلقيس"، وهو بحسب النقوش يُعدّ معبد الإله ألمقة، كبير آلهة مملكة سبأ، يقع على مسافة عشرة كيلومترات إلى الجنوب من مدينة مأرب. وتُشير النقوش إلى أنّ المعبد بقي عاملاً حتى بداية النصف الثاني من القرن الرابع الميلادي.
يشكّل معبد أوام مجمعاً دينياً كبيراً يشتمل على العديد من الأبنية المُرتبطة به، منها منازل للكهنة، وغرف مساعدة، وورش عمل للتنجيم، ومقبرة متّصلة بالمنطقة السكنيّة التي جعلت اسمها المنطقة المُحرّمة. يقع المعبد في منطقة معزولة استخدمت كمكان ديني مقدّس، ويتكوّن من سُور بيضَوي من الحجارة الكِلسية المنحوتة بطول 752م، وبسماكة تصل إلى نحو خمسة أمتار، ويتوسّطه فناء بطول 52 متراً، وعرض 24 متراً، وضعت فيه الأعمدة الثمانية الشهيرة، أما المدخل فيقع في الجهة الشمالية الشرقية من السُّور.
استُخدمت في زخرفة بوابات المعبد رموزٌ مشغولة بالبرونز؛ منها الثيران والأحصنة والتماثيل البشرية، وتؤدّي الأبواب إلى سلسلة من الساحات والقاعات للوصول إلى المجمّع، وكلّ ذلك مُزيّن بالزخارف واللوحات والتماثيل والمنحوتات والأحجار الكبيرة والنقوش المنحوتة بدقة، والمَطلية بالأحمر، والأفاريز المُزخرفة على الجدار الخارجي، والتي تُوحي للزائر بالرهبة.
وتأخذ قاعة المعبد شكلاً شبه مستطيل، مع ثمانية مداخل مترابطة مغطّاة بأقواس مصمّمة لاستيعاب العتبة. محيط قاعة الأعمدة حوالي 42 × 19 متراً، وتحيط بها نهاية السُّور البيضاوي الشكل في جدرانها الخارجية الغربية والشرقية. ويضمّ الجزء الداخلي للمبنى مكتبة حجرية كبيرة دُوِّن عليها الكثير من النقوش، ولها 64 نافذة مزدوجة مع 32 عموداً.
ويبدو أنّ المباني الجنوبية الغربية القديمة، بما في ذلك قاعة أوام، قد بُنيت وفق مخطّط قياسي مُسبق، وقد كشفت الحفريات في الفناء المرصوف عن العديد من نقوش المسند والزبور، ومجموعة من التيجان المكسورة، واللوحات البرونزية، والمذابح، والعديد من التماثيل الفخارية.
وتختلف معابد حضرموت من حيث الشكل عن معابد منطقة الجوف؛ إذ تتكوّن من مساحة داخلية مقسومة على صفّين من ثلاثة أو أربعة أعمدة، ولها غالباً مداخل مُنحنية، وتتميّز فنون هذه المعابد بالتجريد، وتحضر أفاريز الوعل المميّزة بكثرة.
قصور
مع نشاط شبكات التجارة العالمية في القرن الأول الميلادي، برعاية الإمبراطورية الرومانية، ظهرت مملكة جديدة في اليمن أسّستها سُلالة حِميرية. وفي هذا القرن بُني قصر البرج في مدينة شبوة الحضرمية، ولكنّه دُمّر بشكل جزئي عام 230 للميلاد، وأُعيد ترميمه أكثر من مرّة. وتُتيح بقاياه إلقاء نظرة على نمط معماري يمني قديم، حيث بيّنتِ المُسوحات بأنه بُني من الطوب المَشويّ والخشب، على أُسس حجَرية، وكان يتكوّن من مبنى شاهق متعدّد الطوابق، متّصل بفناء مُحاط بأروقة من طابقين.
وكانت الأروقة تحتوي على أعمدة مثمَّنة الأضلاع، مغطّاة بزخارف كرمة منحوتة وتيجان منحوتة بِصُور الحيوانات الأسطورية (غريفين). وصوّرت اللوحات الجدارية بشكل جيد مشاهد وزخارف، ويلاحظ في هذه الزينات تأثيراتٌ هلنستية متأخّرة.
وتتّضح التأثيرات البيزنطية في العاصمة الجديدة في ظفار بالقرب من يريم، وهي مدينة مُحصّنة كانت مُحاطة بسُور له تِسع بوّابات وقلعة تُسمى قصر ريدان، هي مقرّ ملوك حِمْير، كما تم بناء قلاع حجرية أُخرى في مواقع مختلفة بحلول القرن الخامس الميلادي.
العمارة الإسلامية
تتفاوت العمارة الإسلامية في اليمن بتفاوت الحِقَب، ويُعدّ جامع صنعاء الكبير أقدم بناء يعود لحقبة صدر الإسلام، حيث بُني في السنة السادسة للهجرة، وقد أمر بتوسعته الخليفة الأموي الوليد بن عبد الملك، حيث عثر علماء الآثار عام 2006 على آثار سراديب وآثار لبناء قديم ما زالت قيد الدراسة، وقد عُثر فيه على عدد من المصاحف القديمة التي تُعدّ الآن أقدم المصاحف المكتشفة في العالَم. وهناك من يذهب إلى أنّ هذا الجامع بُني على أنقاض قصر غمدان الشهير، بدليل أن أبواب الجامع عليها كتابة بخطّ المُسند.
تعكس زخارف مسجد صنعاء الترميمات المتعدّدة، وهي تجسد أيضاً أفضل التقنيات الفنّية في اليمن على مرّ القرون، بما في ذلك الخشب المنحوت والمَطْلي، والحجر المشذَّب، والجصّ المنقوش.
غير أنّ مسجد العباس بأسناف خولان، إلى الجنوب الشرقي من العاصمة صنعاء، يُعدّ من أجمل الأبنية الدينية التي ما تزال تحتفظ بهيكلها القديم، وهو يعود إلى عهد الدولة الصليحية خلال الفترة التي حكمت فيها أروى بنت أحمد الصليحي (1049 - 1138م).
بُني المسجد بشكل مستطيل طولُ ضلعه سبعة أمتار وربع المتر، وعرضه ستة أمتار وربع المتر، فيه مدخلان أحدهما يقع في جداره الغربي والآخر في جداره الجنوبي. وقد استخدم معمار المسجد أحجار مبنى قديم كان قائماً مكانه، يعود إلى الفترة السابقة للإسلام، حيث تُشير طريقة البناء والنقوش المُسندية أنه كان معبداً لأحد الآلهة اليمنية القديمة.
وعلى طريقة الكثير من المباني اليمنية؛ بُني الجزء السفلي من المسجد بالحجارة الكِلسية الضخمة المشذَّبة من الخارج، وتُشاهَد على بعضها كتابات بخطّ المسند، وصنعت مادة الربط من الجصّ والنورة بين مداميك الأحجار لزيادة قوّة تماسُك الجدار. وتصل المداميك الحجرية إلى مستوى نهاية فتحة المدخل، ليتم البناء باللِّبْن المحروق، حيث زُيّن من أعلاه بشرفات مسنَّنة متدرّجة ذات خمسة أسنان بلغ عددها في الأضلاع الطويلة سبعةً وفي القصيرة خمسةً، وهي على شكل حلية زخرفية تُحلّي سقف المسجد من الأعلى، وتشبه هذه الزخارف عناصر زخرفية ظهرت في العمارة الإسلامية المصرية خلال العصر الفاطمي.
وتستلهم هندسة مسجد السرحة بالقرب من إب الطرائق القديمة في بناء المعابد؛ فهو يتكوّن من غُرفة مستطيلة ذات مداخل متعدّدة، وسقف غني بالزخارف المنحوتة والمطلية بنقوش مُتداخلة تُشبه النجوم. وثمة نماذج شبيهة به مثل مسجد سليمان بن داود في مأرب، والمسجد الجامع في ذمار.
العمارة الحديثة
يتميّز كلّ إقليم من أقاليم اليمن اليوم بغلبة نوع من مواد البناء، فالغالب على أرياف غربي تهامة الخشب، والقشّ، والطوب المشويّ، وفي المدن الحجر الجيري. وفي جبل تهامة الحجارة الطبيعية، وفي المرتفعات، بالإضافة للحجارة الطبيعية، الطوب المشوي، والطوب المصنوع من الطين والرمل والحصى. في حين نجد التراب واللِّبْن المجفّف بالهواء في المناطق الصحراوية الشمالية الشرقية، وكذلك الحجر الطبيعي المعالج آلياً.
وتتنوّع هندسة البِناء بين منطقة يمنية وأُخرى، فمنازل صنعاء كبيرة ويصل ارتفاع بعضها إلى ستة طوابق، ويضم الطابق الأسفل الدهليز والإسطبلات وغرف التخزين. أما موادّ البِناء فتتوزّع بين الحجر المنحوت في الطوابق السُّفلية، والطوب المشويّ للطوابق العُلوية. ولا تتجاوز بيوت مدينة إب الأربعة طوابق، وهي مبنية بالحجَر المنحوت كما هو الحال في صنعاء، ولكنّ تصاميم الطوابق السُّفلية تختلف عمّا هو الحال في صنعاء، فالواجهات هنا مختلفة؛ تتكون من نوافذ علوية كثيرة، يصل بعضها إلى عشرين نافذة على شكل نصف دائرة، مع أفاريز شبكية أسفل حافة السطح.
وتختلف بيوت صعدة عن صنعاء وإب، فهي تتكون من ثلاثة طوابق، وبعضها أربعة، مبنية من الطين المشوي وخليط الطين والقشّ، ويتميّز الجزء العُلوي من المبنى بالنوافذ الصغيرة المخصّصة للتهوية، وثمّة مبالغة بالألوان والزخارف. ويبني سكان مدينة زَبيد منازلهم بطابق واحد أو اثنين، ويستخدمون الآجر المشوي المغطّى بالجبس، وتشتمل الواجهة عادة على مدخل ونافذتين مُزيّنتين من الداخل والخارج بأفاريز وأسطح زخرفية، وغالباً ما تكون واجهات المنازل بيضاء اللون.
فرادة شبام
تنفرد مدينة شبام، الواقعة وسط حضرموت جنوبي اليمن، بارتفاع أبنيتها إلى 40 متراً وسبعة طوابق، وبكثافة أبراجها ضمن السُّور المربّع الذي يُحيط بالمدينة، مما يجعلها أقرب إلى المدن المعاصرة، وقد فرضت الطبيعة على هذه المدينة حلولها المعمارية المُبتكرة، فهي تقع في أرض زراعية مَروِية. ولذلك حرص المهندسون المعماريون اليمنيون على بناء الطوابق الأرضية بالحجارة المقبوّة، الأمر الذي ساعد على مقاومة هذه الأبنية للفيضانات الناجمة عن الأمطار الموسمية.
وتُشير السجلات التاريخية إلى بناء مدينة شبام، كما نعرفها اليوم، خلال القرن السادس عشر، بعد فيضان كبير وقع عام 1532م، أتى على معظم أبنية المدينة القديمة. وكانت شبام منذ أزمنة سحيقة غنية بالزراعة، ومركزاً لتجارة البهارات والمواد العطرية، ولذلك كان سكانها يمتلكون ثروات كبيرة، وهذا سبَّب تعرُّضها لهجمات وغزوات متواصلة، ولذلك رُوعي في بنائها هذان الخطران: الفيضانات والسيول من جهة، وهجمات القبائل البدوية من جهة أُخرى.
ومن أكثر الأمور لفتاً للأنظار على هذا الصعيد؛ ارتباط العديد من الأبراج بجسور فيما بينها تسمح للسكان بالهرب في حالة هجوم العدو. وتسكن البناء في العادة عائلة واحدة، حيث يخصّص الطابق الأوّل كإسطبل للحيوانات، والثاني كمخزن للموادّ الغذائية وغير الغذائية، واعتباراً من الطابق الثالث تسكن العائلة، وهو ما يُتيح لها إطلالات جميلة على الأفق المفتوح.
* كاتب وباحث سوري فلسطيني
نقلاً عن العربي الجديد