أُم مُحَمّد، سيدةٌ سبعينية تستيقظ يوميًا قبل الساعة الخامسة فجرًا لتصلي ومن ثم ترتب مبيعاتها من النباتات العطرية والبيض البلدي (البيتي) واللبن، ومن ثم تخرج لتنتظر السيّارة التي ستقلها من أمام منزلها في إحدى قرى ضواحي صنعاء، تقطع بها السيّارة مع رفيقاتها من البائعات المُسِنّات حوالي 45 كيلومترًا لتصل الساعة السابعة سوق باب اليمن وسط العاصمة صنعاء.
هناك في سوقي باب اليمن والقاع وغيرهما من الأسواق التقليدية بصنعاء سيجد الزائر عددًا من البائعات المُسِنات يجلسن بجوار بعضهن بملابسهن الريفية التقليدية، وتتكوم أمامهن ما يبعنه من نباتات عطرية كالريحان والشذاب وغيرها من النباتات، التي تطلبها المنازل في صنعاء ضمن تقاليد متعارف عليها في أفراح وأتراح، بالإضافة إلى ما يبعنه من بيض ولبن (بيتي).
لا تتجاوز قيمة ما تبيعه أم محمد يوميًا خمسة أو سبعة آلاف ريال في أحسن الأحوال (حوالي عشرة دولارات)، وتقول إن ربحها لا يتجاوز ثلاثة آلاف ريال في أحسن الأحوال «لكنه مليح والحمدلله، فهو يوفر الاحتياجات الضرورية للبيت، خاصة ونحن في القرية نعتمد في بعض الاحتياجات على الزراعة التي بات عائدها محدودًا مع شح وغلاء مياه الري»، تقول.
وتتكون أسرة أم محمد، من زوج مقعد، وابن عجزت الأسرة عن تزويجه، وبنت تخرجت في الجامعة، ولم تحصل على عمل منذ ثماني سنوات، بالإضافة إلى ولدين متزوجين، ويعملان في الزراعة بعد انقطاع صرف رواتب وظائفهما الحكومية مثل معظم موظفي الدولة منذ عام 2016.
اضطرت أم محمد أن تعمل في نفس عمل جارتها بعدما وجدت الحياة المعيشية لأسرتها صعبة، ولم تأخذ سوى وقت قصير حتى تعرفت على أسرار هذا العمل.
على هذا الحال تعمل أم محمد يوميًا باستثناء الجمعة، ومثلها نسوة كثر يعملن في أكثر من مجال، ولا يقتصر على من يأتي من قرى الضواحي؛ فالوضع المعيشي في صنعاء دفع مُسنات من سكان المدينة ومن النازحين إليها من مناطق الصراع، وهن كثير للخروج للعمل مساهمة في تحسين أوضاع معيشة أسرهن، لا سيما بعدما وصل الحال إلى مستوى لم يعد أمامهن سوى الخروج كوسيلة لتحدي ظروف واقعهن المرير.
تتنوع مجالات عمل المُسنات؛ فمنهن مَن يعملن في الخدمة في المنازل، ومنهن من يعملن فراشات في بعض المؤسسات التجارية، أو بائعات متجولات، ومنهن من تخرج لجميع بقايا الكراتين والحطب من الشوارع لتعود به للمنزل للاستفادة منه في إيقاد النار لعمل الخبز، بعدما وصل الحال ببعض الأسر إلى العجز عن شراء أسطوانة الغاز المنزلي. وبعضهن صرن يعملن في تجميع المعلبات البلاستيكية من الشوارع، وبيعها بالكيلوغرام لمراكز التجميع، التي بدورها تبيعها للمصانع.
الملاحظة الأبرز في عمل المسنات هو عملهن في أعمال ذات عائد بسيط للغاية، بالكاد يوفر لعائلتها الاحتياجات الضرورية للبقاء على وجه الحياة! بل اللافت أن المجتمع كأنه لا يرى تأثير الحرب على فئة المُسنات.
لم يكن عمل المُسنات قبل الحرب ظاهرة واضحة كما هي عليه خلال الحرب الراهنة، التي أسهمت في إبرازها كظاهرة تعكس مدى تأثير الصراع على وضع العائلة اليمنية اقتصاديًا وقيميًا في علاقتها بالمسنين؛ وهي نتيجة طبيعية تحت ضغط الظروف الاقتصادية التي بلغت بالناس مدًا سيئًا للغاية!
تمضي جوهرة، وهي ستينية على ما يبدو من ملامحها، ست ساعات يوميًا في تجميع المعلبات البلاستيكية في طريق الدائري الشمالي بصنعاء منذ عامين، كما تقول، بعد أن ساءت الأحوال بأسرتها إثر ترحيل ابنها من السعودية؛ لأنه بدون وثيقة إقامة رسمية، بعد سنوات أمضاها هناك كان خلالها يرسل لوالديه ما يعيلان به حالهما مع أخته الكبرى.
حاليًا يعمل ابنها نادلًا في كافتيريا براتب لا يكفي لتوفير احتياجاتهم الضرورية. «أجمع في اليوم ثلاثة كيلوغرامات أو اثنين… وأحصل منها على ما يكفي لشراء ما نحتاجه من الخبز والجبن أو الزبادي»، تقول.
لكل سيدة من هؤلاء المُسنات، حكاية تروي بعضًا من معاناة ضحايا كثير غير مرئيين لوجع الحرب؛ فالمُسنات والمُسنون عمومًا وصلوا إلى عمر يُفترض فيه أن يعيشوا تحت أكناف بنيّهم، الذين بالتأكيد صاروا قادرين على إعالتهم؛ إلا أن الوضع المعيشي المتدهور جراء الحرب شمل ببؤسه الكثير؛ وكان الأطفال والنساء هم أبرز ضحاياه للأسف؛ وساهم في مضاعفة المأساة توقف صرف رواتب معظم موظفي الدولة، فيما سرحت كثير من شركات القطاع الخاص نسبة من العاملين استجابة للأوضاع الاقتصادية الناجمة عن الحرب المستعرة هناك منذ ثماني سنوات… لتبقى الدولة ومنظمات المجتمع المدني مسؤولة بأي شكل من الأشكال عن توفير ما يحول بين هذه الفئة والنزول للشارع.
عضو هيئة التدريس في قسم علم الاجتماع بجامعة صنعاء، وهي مستشارة في التنمية والنوع الاجتماعي، سهير عاطف، أوضحت أن هذه المشكلة كانت موجودة قبل الحرب، لكنها أصبحت خلال الحرب الراهنة ظاهرة للأسف.
وقالت لـ «القدس العربي»: «هذه مشكلة ظهرت منذ سنوات، حيث لاحظنا خروج المسنات للبحث عن عمل، وقبولهن لأعمال متدنية؛ بسبب الحاجة للمال. ونجد في الوقت الراهن أنها أصبحت ظاهرة برزت بشكل واضح أثناء فترة الحرب الحالية التي يعاني منها اليمن، خاصة بعد انقطاع الرواتب عن الموظفين في القطاع العام، وتسريح الكثير من أعمالهم في القطاع الخاص، وضعف التشغيل للكوادر المهنية ومخرجات الجامعات الشابة، ونزوح الكثير من السكان من قراهم، بسبب الصراع، إلى المدن الكبرى… وهؤلاء معظمهم من الأطفال وكبار السن، ممن ليس لهم ضمان اجتماعي، مثلهم مثل غالبية السكان بمن فيهم الموظفون».
وأضافت: «ليس هناك ضمان صحي لغالبيتهم، وأيضًا مع تراجع قيم التكافل الاجتماعي بين أفراد المجتمع، وهي القيم التي عهدناها في السابق حاضرة لدى المجتمع اليمني، الذي كان مبادرًا لمساعدة الأسر الفقيرة والمحتاجة، ولكن نتيجة الظروف الصعبة التي يمر بها المجتمع، وغيرها من العوامل، التي ساهمت في خروج النساء المُسنات لمزاولة بعض المهن البسيطة كفراشات ومنظفات وبائعات متجولات، وغيرها من الأعمال… حتى في التسول خرجن مضطرات لإعالة أنفسهن، وتوفير القوت الضروري لأفراد عائلاتهن ممن لم يخرجوا للعمل لرفضهم ممارسة مثل تلك الأعمال البسطة ذات الأجر القليل».
وأردفت مطالبة بوضع حلول عاجلة لهذه الظاهرة… وقالت سهير عاطف: «انتشار هذه المشكلة ساعد البعض من أرباب العمل في استغلال حاجة النساء بإعطائهن أجورًا بسيطة. وكل هذا يحدث بسبب غياب الدولة بمؤسساتها المختصة التي من المفروض أنها تقوم بواجبها للتخفيف من معاناة المُسنات، والتخفيف من بروز هذه المشكلة بهذا الشكل. لذا نرى ضرورة تفعيل دور الجهات الرسمية ومنظمات المجتمع المدني في وضع المعالجات العاجلة لهذه المشكلة».
القدس العربي