دفتر آخر للحزن الكبير سطره اليمنيون المتعبون بحرب تعبث ببلادهم، لوفاة الدكتور عبد العزيز المقالح، ضمير اليمن الثقافى على امتداد أكثر من نصف قرن ظل فيها المفكر والكاتب والشاعر والمعلم والأكاديمي. المقالح المولود عام 1937 واراه الثرى في صنعاء أمس آلاف من محبيه وتلامذته بمراسم بسيطة بناء على وصيته، وضمت جثمانه النحيل بعد أن صرعه المرض والحزن، مقبرة «خزيمة الأكبر» في العاصمة، والتي تبعد أمتارا قليلة عن مقابر شهداء مصر، معشوقه الكبرى التي فتحت ذراعيها له في الستينيات والسبعينيات، لينطلق نحو فضاءات الأدب.
يقول الدكتور أحمد قايد الصايدي، مندوب اليمن السابق لدى منظمة الـ «يونسكو»: «قبل ما يزيد على أربعة أعوام ونصف العام أعلن الأستاذ الأكاديمي الأديب الشاعر الكبير، عبد العزيز المقالح، رغبته في الرحيل فى قصيدة مبكية، مطلعها: أنا راحل حتما.. فما الداعي إلى تأجيل موتي؟ وكأنه كان يستعجل الرحيل، من عالم كريه لم يعد البقاء فيه يغرى العقلاء. عانى خلال الأعوام الماضية من وطأة المرض ومن قسوة الحياة فى يمن دمرته الحرب». يحفظ اليمنيون قصيدته التي يقول فيها:
فى لسانى يَمَنْ..
فى ضميرى يَمَنْ
تحتَ جِلْدى تعيشُ اليمنْ..
خلفَ جَفْنى تنامُ وتصحو اليَمَنْ.
صرتُ لا أعرفُ الفرقَ ما بينَنا..
أيُّنا يا بلادي يكونُ اليمنْ؟
يؤكد الكاتب اليمنى صالح البيضانى أن المقالح بدأ كتابة الشعر في منتصف الخمسينيات، وترافق ذلك مع اشتغاله في إذاعة صنعاء حيث قام بإذاعة البيان الأول لثورة السادس والعشرين من سبتمبر 1962. وقد ساهم مبكرا في نشر الوعي الثوري والأدبي في اليمن، لكنّ دواوينه الشعرية وكتاباته ظلت قيد الدفاتر، ولم يهيأ لها النشر إلا بعد انتقاله إلى مصر. وتوغَّل المقالح في المشهد الأدبي المصري في الوقت الذي كان يستكمل فيها دراساته الأكاديـمية حتى حصوله على شهادة الدكتوراه.
وقد شكلت فترة القاهرة التي امتدت من منتصف الستينيات من القرن العشرين إلى عام 1977 المرحلة الثانية المهمة في تكوينه وفتحت له آفاقا جديدة نحو القراءة والكتابة والعيش فى حميمية المشهد الثقافي العربي. فقد اعترف المقالح ذات مرة بأنه يغترف من معينين اثنين هما الطفولة والقاهرة.
في أعوامه الأخيرة، تابع المقالح أخبار الحرب في بلاده بأسى بالغ، يرفض محاولات استقطابه أو انتزاع أيّ موقف منه لمصلحة أيّ طرف، كما لا يجهد نفسه في نفى القصائد السياسية المنتحلة التي تنسب له بين تارة وأخرى. لكنه وعلى الرغم من صمته البليغ والمعبّر، لم يلقَ ما يستحقه من احترام المتحاربين.
لم يترك المقالح لحظة يؤكد فيها انتماءه لثورة بلاده وجمهوريتها مهما عاشت التحديات، فيقول : «جمهوريّاً جئتُ وجمهوريّاً عشتُ وجمهوريّاً سأموتْ أؤمنُ باللهِ العادلْ، وبأنَّ الناسَ سواسيةٌ فى الحبِّ سواسيةٌ فى الخبزِ سواسيةٌ فى الموتِ سواسيةٌ فى الجنَّةِ أو فى النّار».
في قرية المقالح بمحافظة إب، وسط اليمن، كان ميلاده. وتلقى تعليمه الأول في الكتاتيب بمدينة صنعاء، ثم التحق بدار المعلمين بصنعاء وتخرج منها عام 1960. وواصل تحصيله العلمي حتى حصل على الشهادة الجامعية عام 1970. وفى عام 1974 حاز على درجة الماجستير في الأدب العربي عن موضوع رسالته «الأبعاد الموضوعية والفنية لحركة الشعر المعاصر في اليمن»، في جامعة عين شمس. وفى عام 1977، نال شهادة الدكتوراه عن موضوع رسالته «شعر العامية في اليمن- دراسة تاريخية ونقدية» من الجامعة نفسها.
شغل العديد من المناصب العلمية والإدارية، من بينها عمله أستاذًا للأدب والنقد الحديث في كلية الآداب- جامعة صنعاء، ورئيسًا لجامعة صنعاء بين عامي 1982و2001. وهو رئيس المجمع العلمي اللغوي اليمني، وعضو المجمعين اللغويين في القاهرة ودمشق.
*الأهرام المصرية