"لم أكن أعلم أن هذه الحرب ستقلب حياتي رأسا على عقب"، بهذه الكلمات بدأ الحاج عبده بلال أحمد وصف معاناته؛ حيث نزح أحمد مع أسرته من منطقة الملاحيظ في صعدة (التي تخضع لسيطرة الحوثيين شمالي اليمن) إلى مديرية الزهرة بمحافظة الحديدة (على البحر الأحمر)، بسبب الغارات الجوية على المناطق الحدودية.
ويقول "مشينا 3 أيام من قرية إلى أخرى، أنا وزوجتي وأطفالي، وتنقلنا من مخيم إلى آخر حتى استقر بنا الحال هنا". وبسبب عدم إدماجه في مخيمات ثابتة للنازحين، جهز أحمد خيمة بسيطة (ارتفاعها متر وطولها متران)، ليسكن فيها مع أطفاله وزوجته التي فارقت الحياة قبل أشهر، بسبب المرض وعدم توفر أي رعاية طبية.
يعول أحمد أطفاله الخمسة الذين انقطعوا عن الدراسة، لعدم وجود مدارس قريبة، وانصرفوا لمساعدته في تحصيل قوتهم عبر جمع المخلفات البلاستيكية وبيعها. لم تحصل العائلة على مساعدات إغاثية من أي منظمة، رغم أن موظفين من عدة منظمات تواصلوا معه وسألوه مرات عن احتياجاته و"سجلوها على الورق".
على مدى 7 أشهر، تتبع معدا التحقيق مجموعة مشاريع نفذتها منظمات دولية في اليمن، وقاما بتحليل وثائق وعقود 14 مشروعا نفذتها منظمات أميركية وبريطانية وأخرى تابعة للأمم المتحدة. وأظهرت الوثائق أن الميزانيات التشغيلية لبعض المشاريع كانت أكبر من النسبة المخصصة لها من وزارة التخطيط والتعاون الدولي اليمنية. في حين شهدت مشاريع أخرى تلاعبا في أسعار صرف العملات أو في تفاصيل العقود، مما فوّت المساعدات على مستحقيها.
فائدة أقل وموازنات أكبر
تلقى حسن مبارك (نازح من محافظة حجة) مساعدة نقدية مرة واحدة من مشروع "الاستجابة الإنسانية في محافظة حجة". وهذا المشروع بلغت ميزانيته 1.079 مليون دولار، ونفذه المجلس النرويجي.
تكشف وثائق المشروع عن أن القائمين عليه لم يلتزموا بصرف المبالغ التي حددها العقد. صرفت نسبة 30% من الميزانية (353 ألف دولار) فقط على أنشطة تحقق هدف المشروع وهو صرف مساعدات نقدية لمتضرري الحرب، في حين صرفت الحصة الأكبر من المخصصات أي 70% تحت بند مصاريف تشغيلية للمشروع ومكاتبه في حجة وعدن وصنعاء.
وفي مشروع آخر خاص بالخدمة المجتمعية للنازحين والمجتمع المضيف -نفذته منظمة "أدرا" (Adra) الأميركية في محافظات عدة بينها محافظة حجة خلال عامي 2019 و2020- كانت النفقات التشغيلية الخاصة بالمشروع 440 ألف دولار، أي نحو 58% من موازنة المشروع البالغة 757 ألف دولار، وصرف باقي المبلغ (317 ألف دولار) لتنفيذ أنشطة مرتبطة بالمشروع.
تواصلنا مع المنظمة، ولم يصلنا -حتى لحظة نشر التحقيق- أي رد من مكتبها في اليمن لتوضيح سبب صرف تلك المبالغ في نفقات تشغيلية، بما يخالف تعليمات وزارة التخطيط والتعاون الدولي في اليمن حول حجم المساعدات وتوزيعها.
ففي حين تشترط الوزارة ألا تتعدى نسبة الميزانية التشغيلية 30% من إجمالي ميزانية أي مشروع، لا تلتزم بذلك الشرط منظمات تنفذ مشاريع إغاثية في اليمن. ورغم هذه المخالفات، فإن وزارتي التخطيط في صنعاء وعدن صادقتا على تنفيذ تلك المشاريع المخالفة.
تم تغيير اسم وزارة التخطيط والتعاون الدولي في صنعاء (خاضعة لسيطرة الحوثيين)، ليصبح وزارة التخطيط والتنمية، ونقلت صلاحيات التعاون الدولي إلى المجلس الأعلى لإدارة وتنسيق الشؤون الإنسانية والتعاون الدولي، الذي أصبح مسؤولا عن إدارة ملف المنظمات الدولية في اليمن.
ويقول الناطق الرسمي باسم المجلس طلعت الشرجبي إن "المجلس لا يتدخل في عمل المنظمات الدولية في اليمن، إلا أن خطط الاستجابة يعلنها المجلس بشكل رسمي وتنفذها المنظمات، وهي مشاريع معلومة التفاصيل، وهناك مشاريع تقدمها المنظمات تتم دراستها من قبل المجلس بما يتلاءم مع خطة الاستجابة واحتياجات المستهدفين".
وعن الحالات التي يعترض فيها المجلس، يقول الشرجبي: "إذا كانت هناك تكاليف مرتفعة وغير معقولة، مثل أن تكون الميزانية التشغيلية أكبر من الميزانية التي تعود بالفائدة على المنتفعين". ويشير إلى أن المجلس أوقف مشاريع من هذه النوع، "وكأن المنظمات تريد من المجلس أن يعطي تلك النفقات الصفة القانونية".
ويضيف الشرجبي أن المشاريع التي تم إيقافها تذهب إلى مناطق الطرف الآخر، في إشارة إلى مناطق سيطرة "الحكومة الشرعية المعترف بها دوليا".
لكن النفي من عدن (التي اتخذتها الحكومة الشرعية المعترف بها دوليا عاصمة مؤقتة منذ عام 2015) جاء على لسان زهير حامد مدير عام المنظمات في وزارة التخطيط والتعاون الدولي؛ فيقول حامد إن الوزارة تشترط في الموازنات التشغيلية للمشاريع التنموية ألا تتجاوز 30% من إجمالي الموازنة، من دون شروط مسبقة في تنفيذ المشاريع سوى أن تخدم الإنسان وتحقق شروط التنمية التي تتبناها الحكومة اليمنية.
لكن الوثائق التي حصلنا عليها تناقض ردود الطرفين في صنعاء وعدن، فأكثر من 11 مشروعا (تم توثيقها خلال الفترة 2016-2021) تتجاوز ميزانياتها التشغيلية 30% من الموازنة الكلية المرصودة، وتتراوح بين 40% و50% من إجمالي ميزانية المشروع.
تلاعب آخر
ولم يقتصر الأمر على الميزانيات التشغيلية في تبديد مساعدات كان يفترض أن تصل للمحتاجين؛ فبعض المنظمات المحلية اتجهت للاستفادة من تضارب أسعار صرف الدولار، إذ بلغ سعر الصرف -وفق نشرة البنك المركزي بصنعاء- 250 ريالا، في حين وصل سعره منذ أكثر من عامين إلى 600 ريال في السوق الموازية خلال الفترة 2019-2020، من دون أن يتغير في حسابات وموازنات المنظمات.
يؤكد حسين الفضلي (اسم مستعار) -الذي عمل مسؤول احتياجات في منظمة محلية- أنه توصل خلال عمله في الفترة بين عامي 2019 و2020 إلى أن المنظمات تعتمد سعر الصرف الرسمي، وهو ما يوفر فوارق كبيرة في أثناء تنفيذ الأنشطة، حسب تعبيره.
يقول الفضلي "في مشروع صغير (وهو تركيب خزانات مياه في محافظة حجة) نفذته المنظمة بدعم من صندوق التمويل الإنساني التابع للأمم المتحدة، بلغ سعر الخزانات 55 ألف ريال يمني، أي نحو 92 دولارا بسعر السوق الموازية، أما بسعر البنك المركزي فبلغ 220 دولارا، أي أن هناك 128 دولارا فارق سعر في كل خزان".
وفي وثيقة أصدرها مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية "أوتشا" (OCHA) عام 2020، تظهر 3 أسعار للدولار، السعر الرسمي 250 ريالا، وسعر الأسواق الموازية 600 ريال، وسعر جديد 666 ريالا.
وتعليقا على هذه الوثيقة، يقول الدكتور عبد القادر الخراز -عضو حملة "لن نصمت وين الفلوس" التي بدأت عام 2019 لكشف فساد المنظمات الدولية- إن "هذه الوثيقة تكشف فسادا في سعر اعتماد الدولار، خصوصا بعد الاختلاف بين صنعاء وعدن، ويعد هذا تلاعبا كبيرا بالبيانات التي لا تزال كما هي في نشرات البنك المركزي، خصوصا في صنعاء".
ويضيف الخراز أن "المنظمات تدخل بلعبة أكبر، وهي عدم صرف الدولار بالبنك المركزي، وبالتالي عدم دخول هذه التمويلات إلى البنك، وهذا يؤثر سلبا على الاقتصاد ككل، إلى جانب أنها تصرف المساعدات للمحتاجين والمتضررين من الحرب بسعر 250 ريالا، وتتلاعب بعملية المصارفة بين صنعاء وعدن".
أزمة إنسانية رغم المليارات
أشار تقرير مراقبة تنفيذ خطة الاستجابة الإنسانية لعام 2021 الصادر عن مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية (OCHA) إلى أن 20.7 مليون يمني، أي ثلثي السكان، بحاجة إلى مساعدات إنسانية، بينهم 12.1% بحاجة إلى مساعدة عاجلة، كما أن 80% يعيشـون تحـت خـط الفقر، في حين بات 3.6 ملايين يمني على حافة المجاعة، كما أرغمت الحرب 4.3 ملايين شخص على النزوح من مناطقهم، والعيش في ظروف بالغة الصعوبة داخل عشرات المخيمات.
ويأتي ذلك رغم أن المساعدات الدولية المقدمة لليمن عبر منظمات الأمم المتحدة خلال السنوات الست الماضية، قد وصلت إلى 17 مليار دولار، ضمن "خطة الاستجابة الإنسانية".
حسب الباحث الاقتصادي عبد الواحد العوبلي، فإن تلك المبالغ تعد كفيلة بسد حاجة اليمنيين من الحبوب، ويضيف أن "نصف أموال تلك المساعدات ذهبت إلى برنامج الغذاء العالمي التابع للأمم المتحدة، ومتوسط واردات اليمن السنوية من الحبوب يبلغ حوالي 4.2 ملايين طن متري، وبضرب هذه الكمية في متوسط سعر الحبوب حوالي 220 دولارا، نجد أن الفاتورة السنوية للحبوب تبلغ نحو مليار دولار سنويا، وهذا يعني أنه بمبلغ 17 مليار دولار نستطيع توفير الحبوب لـ30 مليون يمني لمدة 17 عاما".
راسلنا -عبر البريد الإلكتروني- المنظمات الدولية التي ورد اسمها في التحقيق حول ما توصلنا إليه، ولكن لم يصلنا أي رد منهم (حتى تاريخ النشر)، وبينما ينتظر كل من حسن مبارك وعبده بلال أحمد حصتهم الثانية من المساعدات الإنسانية التي تم جمعها بأسمائهم، تستمر المنظمات الدولية بالشراكة مع منظمات محلية في إنفاق السواد الأعظم من المساعدات على مصاريف تشغيلية لمقراتها وعامليها، والأمر في ازدياد.
*هذا التحقيق أنجزته شبكة "إعلاميون من أجل صحافة استقصائية عربية" (أريج)، ونشر في موقع الجزيرة نت.