لم يدُر في خُلْدِ عشرات الآلاف من المهاجرين الأفارقة وهم يخوضون رحلة العذاب والموت للوصول إلى اليمن، بحثًا عن مكانٍ آمنٍ يحتوي آلام السنوات المضنية وقهرها، بأن واقعًا أكثر إيلامًا ينتظرهم ومعاناةً تتجاوز مساحات الحدود والأمكنة.
نساء وأطفال يرمون بأجسادهم المتعبة على الأرصفة والطرقات، وقد نال الجوع من أكثرهم، بحثًا عن شجرة يستظلون تحتها أو جدار يحتمون به بعدما اشتد الوجع بغالبيتهم وازداد إحساسهم بـ "اليُتم" في بلدٍ هو الآخر يبحث عن منفذٍ للحياة، جراء الحرب الدائرة في البلاد منذ نحو 7 أعوام.
ويعد اليمن وجهة لمهاجرين من دول القرن الإفريقي، لا سيما إثيوبيا والصومال، ويهدف الكثير منهم إلى الانتقال في رحلة صعبة إلى دول الخليج، خصوصا السعودية.
كـ "المستجير من الرمضاء بالنار"
"خرجنا من بلادنا بسبب الحرب بحثا عن الأمن والحياة الكريمة، قبل أن تصطدم أمانينا بواقع أكثر ألمًا وأسى". بهذه الكلمات استهلت بيزاويت تديروس، مهاجرة أثيوبية تتقن العربية بطلاقة، حديثها مع "الأناضول".
وقالت: "قدمنا إلى اليمن، ولم نكن نعلم أنها تعاني من الحرب أيضًا، وأصبح حالنا كـ "المستجير من الرمضاء بالنار".
وأضافت: "قبل قدومنا إلى عدن كنا في صنعاء، لكن السلطات الحوثية مارست ضدنا كل أساليب القهر والإذلال، إذ قامت بتجميع المهاجرين الأفارقة في مركز للاحتجاز، وطلبت دفع 2000 دولار أمريكي عن كل شخص، أو الذهاب إلى الجبهة لقتال القوات الحكومية".
وتابعت: "البعض دفع المبلغ، والغالبية لم يستطيعوا، فأخذ الحوثيون العشرات منهم إلى جبهات القتال، فيما امتنع 450 شخصًا عن الذهاب، فبقوا رهن الاحتجاز".
وأشارت إلى أن "المحتجزين نفذوا ذات يوم إضرابا عن الطعام، وحصل خلاف مع أحد الحراس، فرمى بقنبلة داخل المعتقل، ما أدى إلى احتراق المبنى ومقتل 450 شخصًا من الأورمو (المسلمين) كانوا داخله، منهم من توفى في الحال، والقليل من توفى لاحقًا متأثرًا بجراحه".
وفي 7 مارس/ آذار 2021، أسفر حريق مميت في مركز احتجاز مكتظ بالمهاجرين واللاجئين الأفارقة بصنعاء عن مقتل العشرات، وفق تقارير لمنظمات حقوقية حينها، منها "منظمة مواطنة لحقوق الإنسان" (يمنية غير حكومية).
اعتصام وترحيل
قالت بيزاويت: "بعد الحادثة نفذ أهالي الضحايا اعتصامًا أمام مقر المفوضية السامية لشؤون اللاجئين، للمطالبة بتسليم الجثث والقيام بمراسيم الدفن، إلا أن رد المفوضية كان صادمًا، إذ قالوا لنا: لا نستطيع أن نعمل لكم شيء، هذه سلطة حاكمة وعليكم العودة الى دياركم".
ولفتت إلى أنه "بعد نحو شهر، قامت سلطة الحوثيين بفض الاعتصام بصورة وحشية مستخدمة مئات الجنود وعشرات المدرعات، ما أدى إلى إصابات كثيرة، وتسبب بجروح وندوب غائرة في نفوس الجميع".
وأضافت: "أمر مؤسف ومؤلم أن يتم ذلك على مرأى ومسمع من المفوضية السامية لشؤون اللاجئين (UNHCR)، ومنظمة الهجرة الدولية".
وتابعت: "الحال في عدن لم يكن أفضل عما كنا عليه في صنعاء، فحين طرقنا أبواب منظمات الأمم المتحدة لمساعدتنا، كان الرد صادمًا، إذ قيل لنا: بإمكان الرجال العمل في غسل السيارات، والنساء يستطعن الوقوف على أبواب المساجد، لطلب المساعدات".
استمرار المعاناة
من جانبه، روى المهاجر الإفريقي منصور علي محمد رحلة عذابه وآلاف المهاجرين إلى عدن، جنوبي البلاد. وقال: "أخذونا بالقوة وزجّوا بكثيرين في سيارات مكشوفة، ورمونا في آخر منطقة فاصلة بين سيطرة الحوثيين والحكومة الشرعية، بعدما أجبرونا على التوقيع بعدم العودة إلى صنعاء، أو هدر دمائنا".
وأضاف: "منذ وصولنا إلى عدن، لم يلتفت أحد إلى معاناتنا، فجلسنا نهيم في الشوارع ونزامل المقاهي والأمكنة العامة، إذ لا مسكن، ولا مطعم، ولا مشرب أو تطبيب. حتى النوم على الأرصفة بات صعبًا وغير متاح".
وأضاف: "نعيش حياة الضياع في أماكن متفرقة في عدن حيث لا يوجد أي صورة لحياة طبيعية ولا احترام لآدمية الإنسان، ما اضطر كثيرين إلى جمع بقايا الأخشاب وصفائح الحديد لجعلها مكانًا نخلد فيه للنوم".
وأشار إلى أنه "حين تم نقلنا من صنعاء، أخذوا كل من قابلوه أمامهم وتركوا من استطاع الهرب. وبالتالي، هناك أطفال في صنعاء وأمهاتهم بعدن، زوجات في صنعاء والأزواج هنا، ولا يستطيع كل طرف الالتحاق بالآخر".
وتابع: "نشعر بحزن كبير أن الكثير منا غير قادر على زيارة أبنه أو زوجته في صنعاء، والعكس صحيح".
شتات وضياع
وبحسرة كبيرة، تحدث محمد الخضر، مهاجر أثيوبي، إلى "الأناضول"، قائلًا: "فقدت في هذا المكان الموحش أحد أولادي بعد 7 أشهر من ولادته بسبب برودة الطقس، وعدم قدرتي على توفير ما أغطي به جسده الغض".
وأضاف: "بسبب الضرب المبرح التي تعرضت له زوجتي من جانب الحوثيين، فقدت زوجتي حاسة السمع تماما، كما أن لي طفلين آخرين في صنعاء لا أعرف عنهما شيئًا".
ولم يتسن لـ "الأناضول" الحصول على تعقيب فوري من جماعة الحوثي حول تلك الاتهامات.
قنبلة موقوتة
نائب وزير حقوق الإنسان في الحكومة الشرعية سمير الشيباني قال لـ "الأناضول" إن "مشكلة المهاجرين الأفارقة في اليمن عويصة ومتشعبة، فهناك مهاجرون شرعيون يحملون بطاقات المفوضية السامية. وثمة آخرون، وهم الأكثر، غير نظاميين".
ولفت إلى أن "عملية ترحيل هؤلاء إلى بلدانهم صعبة، إذ إن القانون الدولي يمنع إجبارهم على العودة، وقليل منهم يرغب في العودة إلى ديارهم".
وأوضح أنه " في ظل ظروف الحرب التي تمر بها البلاد، وعجز السلطات عن توفير الحاجات الضرورية للسكان المحليين، وعمليات النزوح الداخلية، فإن دخول الأفارقة بهذه الصورة الكبيرة فيه تهديد للأمن والسلم المجتمعي".
وأبدى الشيباني تخوفه من حدوث موجة هجرة جديدة في ظل المعارك الحالية في إثيوبيا، واستغلال الناس من خلال الزج بهم في المعارك، كما حصل من جانب الحوثيين، مقابل حصولهم على المال، وبالتالي فإن وضعهم مثل القنبلة الموقوتة التي ستنفجر في أي لحظة".
من جانبها قالت منظمة الهجرة الدولية في معرض ردها على سؤال الأناضول؛ إن "عدد الافارقة الذين قدموا إلى اليمن منذ اندلاع المعارك في سبتمبر أيلول 2014؛ بلغ ( 140) ألفا؛ وجميعهم يحتاجون إلى مساعدات إنسانية عاجلة".
وكانت المنظمة الدولية للهجرة التابعة للأمم المتحدة أعلنت عن وصول أكثر من 16 ألف مهاجر إفريقي إلى اليمن، في الفترة الممتدة من يناير/ كانون الثاني إلى سبتمبر/ أيلول 2021، مقارنة بـ 32 ألفا و122 مهاجرا وصلوا إلى البلاد خلال الفترة ذاتها من العام الذي سبقه".
ولفت إلى أن "معظم المهاجرين الواصلين إلى اليمن يواجهون مخاطر شديدة، إذ يعدون من أكثر الفئات المحرومة والمهمّشة".
ويشهد اليمن حربا منذ نحو 7 سنوات، أودت بحياة أكثر من 233 ألف شخص، وبات 80 بالمئة من السكان البالغ عددهم نحو 30 مليون نسمة، يعتمدون على الدعم والمساعدات، في أسوأ أزمة إنسانية بالعالم، وفق الأمم المتحدة.
الأناضول