كثيرا ما نعتقد أن الفقر أن نجوع ونعرى ونتشرد، ولكن هناك أنواعا من الفقر أشد إيلاما وهو شعورك بأنك غير مرغوب بك، وغير محبوب وأنك عاجز عن أشياء تريد أن تحصل عليها لتكون مكملة لك.
معاذ الهتار أربعيني اعتاد زيارة مستشفى الرشاد للأمراض النفسية والعصبية في العاصمة صنعاء مؤخرا. يقول "لم أكن أتوقع في يوم أن أكون شخصا يعاني من حالة اكتئاب ووحدة شديدة لدرجة أنني أتحدث إلى نفسي عندما أكون وحيدا.. وأتمتم بكلمات لا أستطيع أن أحدث أحدا بها".
يضيف "تعلمت حتى وصلت للمرحلة الجامعية وتوقفت عن الدراسة لأبحث عن عمل، وفكرت بالزواج لأكمل نصف ديني، لكنني لم أحصل على عمل أستطيع من خلاله جمع المال، فكل ما كنت أقوم به هو تصليح الساعات وهو عمل لا يضمن سوى لقمة عيش يومية لشخص غير متزوج مثلي".
بدأت رحلة هذا الشاب بالبحث عن عمل وتحقيق حلمه بالزواج منذ سنوات، لكنها وصلت به إلى مستشفى الأمراض النفسية.
ينظر معاذ إلى ملابسه المتسخة التي يرتديها ثم يقول "كان ذلك عملي في الماضي بعدها غادرت إلى السعودية بشكل غير نظامي بحثا عن عمل، لم أستقر هناك طويلا بعد سجني وترحيلي، عدت وبحثت طويلا عن عمل دون جدوى.. وعند بداية الحرب على اليمن عام 2015 قررت الخروج من صنعاء للبحث عن عمل في محافظة أخرى. لكن تم القبض عليّ في بلدي أيضا".
تترقرق عيناه بالدموع ثم يواصل حديثه بهدوء وكأنه لا يريد أن يسمعه أحد "بتهمة أنني من مواليد السعودية وأنني عميل، احتجزت في أحد سجون حجة لمدة سبعة أشهر العام الماضي، دون أن يعلم أحد من أهلي أين أنا، وبعد التبليغ والإعلان عن اختفائي تم دفع مبلغ من المال لأخرج من السجن.. وقد كنت في حالة نفسية سيئة".
يواصل الأربعيني سرد معاناته قائلا "عدت إلى صنعاء ورأسي قد اشتعل شيبا دون أن أحقق شيئا مما كنت أرنو إليه.. هذا هو السبب الرئيس لدخولي حالة اكتئاب أصبحت بعدها أشبه بمن فقدوا عقولهم، فأنا أحدث نفسي وكأنني أتحدث لأحد بجواري".
حكاية معاذ ليست استثناء في يمن اليوم الذي بات فيه الزواج مشروعا معقدا بمطالب أرهقت كاهل الشباب المستنزفين أصلا بظروف بلادهم الصعبة.
إبراهيم النصيف البالغ من العمر 35 عاما، وهو جار قريب من معاذ يميل برأسه يمينا ويسارا ثم يقول "بما أن معاذ أخبركم بقصته، فقصتي ربما قد تصبح مثله في القريب العاجل، فجميعنا شباب خذلتنا حكوماتنا وقياداتنا، وأضاعوا شبابنا وهم يتعاركون على السلطة".
"هذا ليس زواجا، هذه تجارة واضحة فيها بيع وشراء" هكذا يقول إبراهيم وهو يطلعنا عبر هاتفه النقال على شروط فرضت عليه حين تقدم لإحدى قريباته قبل عامين، مؤكدا أنه فشل حتى الآن في تدبير المهر المقدر بمبلغ 1.5 مليون ريال (2500 دولار) دون الحديث عن التكاليف الأخرى التي تنتظره.
واعتبر إبراهيم أن المبلغ المطلوب كبير جدا بالنسبة لشاب يعمل حارس أمن بإحدى شركات التبغ بصنعاء براتبه لا يتجاوز 30 ألف ريال (50 دولارا).
وقال "جشع والدها دفعني لأن أعمل جاهدا على الحصول على المال، لكن في مارس/آذار 2018 تم فصلي من العمل بحجة عدم توفر رواتب للموظفين، حاولت بعدها البحث عن عمل آخر لكن دون جدوى، فجميع الشركات والمكاتب تقوم بتسريح موظفيها بسبب عدم القدرة على دفع الرواتب".
أنس الجراش صائغ ذهب في صنعاء القديمة يرى أن ارتفاع سعره ساهم في تعقيد مشروع الزواج، وبرر الأسٍعار الحالية بالأوضاع الاقتصادية المتدهورة وتدهور الريال أمام العملات الصعبة، حيث أصبح غرام الذهب الواحد بـ 23 ألف ريال (46 دولارا) بعد أن كان يباع قبل الحرب بتسعة آلاف ريال (15 دولارا).
على الضفة الأخرى، يقدم الحاج صالح رؤيته من موقعه كأب لثلاث فتيات، ويقول "نحن أولياء الأمور نريد أن نرى بناتنا في أحسن حال وفي أحسن عيشة، لهذا نحاول قدر الاستطاعة أن نفرض على الشاب مبلغا كبيرا من المال ليس لأننا بحاجة لهذا المال، ولكن لكي يقدر زوجته، فعندما يفكر بإيذائها يتذكر جيدا أنها جاءت له بعد جهد كبير وليس بسهولة ويسر".
يتوجه معاذ لصديقه إبراهيم ويخبره بأن عليه مغادرة اليمن سريعا لو استطاع قبل أن يصبح رجلا ليس منه فائدة كما أصبح هو، ثم يطأطئ رأسه ويعود إلى منزل والدته محملا بابتسامة لا تخفي شيئا من معاناته.