لا تمر مناسبة سعيدة، على امتداد ربوع اليمن، إلا ويكون الفل قرينها وسيد بهجتها، إذ لا شيء يمكن أن يعادل حضور هذه الزهرة البيضاء الفواحة بعطرها الفاتن المرسل في أجواء أماكن الأفراح كتعويذة سحرية تذكي الشعور بالأنس وتملأ النفس نشوة وغبطة.
يحضر الفل اليمني في حفلات الزواج والخطوبة وفي الأعياد وحفلات التخرج من الجامعات ويظهر في أشكال عديدة يتفنن في صنعها الباعة والمزارعون، فعادة ما يكون على شكل عقود طويلة دائرية أو «كبوش» حسب التسمية المحلية، تتدلى من أعناق العرسان وتزين صدور النساء وشعورهن، وثمة طريقة أخرى يتم فيها غزل أزهار الفل بإتقان ومهارة لتشكل تيجان بديعة أو «عكاوة» كما يطلق عليها أبناء المناطق الشمالية في حجة وصعدة وتطعم بأزهار ذات ألوان بنفسجية عديمة الرائحة أو أزهار عباد الشمس كما تضاف إليها أحياناً نباتات «المشاقر» العطرية وغالباً ما تستخدم العكاوة من قبل الرجل الريفي في شمال غرب اليمن خصوصاً وفي أي وقت شاء دون التقيد بشرط المناسبات السعيدة بل كجزء أصيل من الموروث الشعبي ولما للفل من قيمة رمزية تدل على الصفاء والنقاء وكل ما هو جميل وطيب.
ويشير الدكتور والشاعر محمد الشميري في حديثه لـ «البيان» عن ارتباط الفل بالعادات والتقاليد في تهامة واحتفاء المثقفين والناس العاديين به وتجسيده في الشعر والثقافة الشعبية ويضيف: يكاد لا يمر وقت هكذا عبثاً دون طقس مرتبط بعادات قديمة ضاربة في نبض التاريخ والإنسان، ابتداء بطقوس دينية أو اجتماعية وثقافية لها جذور أعمق من ذاكرة التاريخ. ولو خصصنا الحديث هنا عن الفل (امزهر) فإن رئة الجهات كلها تتنفس شهيقاً عميقاً وتتنهد. رائحته لا تغيب مهما ذبلت اللحظات وتقادمت على العرسان لياليهم، ومهما تأجل الخميس عن حضوره لحظة الحرب. الفل ليس مجرد زهر عمره قصير لكنه رمز تهامي لإنسان هذه الأرض النقي الشفاف ولعشقه لحياة الأنس والفن والسلام.
هدية الخميس..
مع عطلة نهاية الأسبوع التي توافق يوم الخميس في اليمن يحرص معظم اليمنيين على تقديم الفل كهدية جميلة لزوجاتهم ويحدث العكس لدى البعض، فالمرأة هي من ترتاد السوق كل خميس لتشتري الفل والبخور ولوازم زينتها استعداداً لاستقبال زوجها العائد من العمل. أم محمد من مدينة حجة تتحدث لـ «البيان» عن إسهام الفل في توثيق روابط العلاقة الزوجية وتجديد روح المحبة والمودة بين الزوجين.
مضيفة: لا يكون الخميس يوماً مميزاً من دون الفل فحينما يقدمه الزوج لزوجته أو تقدمه هي له يعني ذلك انهما يعيدان إحياء ليلة زفافهما بكل ما لها من ذكريات سعيدة.
قصة الفل
تشير الحكاية الشعبية إلى أن الفضل الأول لاستجلاب الفل إلى اليمن يعود إلى الأمير أحمد فضل القمندان، الذي أخذ فسيلة من الهند وزرعها في بستان الحسيني الشهير بمحافظة لحج، ومن هناك بدأت قصة عشق وتولع اليمنيين بهذه الزهرة حيث تمددت زراعتها ووصلت إلى مناطق أخرى، وخصوصاً المناطق التهامية في محافظة الحديدة ذات المياه الجوفية الوفيرة، والتي تقدر مساحات زراعته فيها بحوالي 16 هكتاراً موزعة على 1200 مزرعة وتعد التحيتا وزبيد وبيت الفقيه والعباسي من أكثر المناطق التهامية التي يهتم سكانها بزراعة الفل وتسويقه وتصديره لدول الجوار ما يجعله حرفة جيدة تدر مدخولاً لا بأس به للكثير من الأسر.
ولا يزال مزارعو الفل في الحديدة يحافظون على مستوى إنتاجهم وجودة محصولهم، حسبما تحدث لـ «البيان» المزارع محمد موسى وهو نازح ترك مزرعته في التحيتا وغادر نازحاً إلى الخوخة هرباً من قذائف ميليشيا الحوثي وألغامها. ويضيف: رغم الآثار الكارثية التي خلفها اجتياح ميليشيا الحوثي الإيرانية لمزارعنا وتحويل بعضها إلى حقول الغام أو جعلها ساحة لمعاركها العبثية مما حال دون وصولنا إليها وتسبب في نفوق الكثير من الأشجار نتيجة الجفاف وعدم العناية بها، رغم هذا كله بقي الكثير من المزارعين يغامرون ويسقون مزارعهم ويخاطرون بأنفسهم حتى لا يفقدون مصدر رزقهم الوحيد.