"شبام-حضرموت"، اسم لا يكاد يُذكر إلا مقروناً بالتأريخ والتراث، فمدينتها التاريخية المصنفة كأولى ناطحات سحاب في العالم مبنية من الطين، تشكّل متحفاً مفتوحاً يستهوي الزائرين والباحثين عن أسرار العمارة الطينية وإبداع الإنسان اليمني. لكن المدينة التي كانت على مر السنين قبلة للسياحة، أصبحت أخيراً مسرحاً للاغتيالات والتصفيات.
في 17 ديسمبر/كانون الأول الماضي، فتح مسلحون مجهولون النار على الجندي في البحث الجنائي بمديرية شبام، عزل الجابري، في حي الحوطة، ليكون آخر ضحية ضمن قائمة طويلة من ضحايا "المسلحين المجهولين" في العام 2018.
وبحسب إحصائية لـ"العربي الجديد"، شهدت مديرية شبام خلال 2018، 14 عملية اغتيال، راح ضحيتها 15 شخصاً، فضلاً عن ثلاث محاولات اغتيال، إلى جانب محاولة للسطو على مصرف خاص. ووفقاً للإحصائية، فإن ضحايا الاغتيالات بمعظمهم من جنود الأمن والجيش وأفراد قبليين، فيما استهدفت محاولات الاغتيال إمام مسجد واثنين من شيوخ القبائل. وتسبّب الانفلات الأمني الكبير وظروف الحرب التي تشهدها البلاد عموماً بشلل شبه تام للنشاط السياحي في شبام، على الرغم من محاولات محلية لإنعاش المدينة من خلال فعاليات شعبية تقام في مواسم الأعياد والمناسبات الدينية.
من المسؤول؟
على الرغم من أن مديرية شبام شهدت عشرات الاغتيالات خلال عامي 2017 و2018، إلا أن الوضع الأمني فيها يبقى إحدى جزئيات معضلة أمنية تعاني منها غالبية مديريات وادي حضرموت الـ16، في ظل غموض يلفّ معظم الجرائم التي تُسجل غالباً ضد مجهول.
وباستثناء إطلاق الوعود المتكررة لإصلاح المنظومة الأمنية وتنفيذ خطة لتفعيل أجهزة الشرطة، لم تتمكن السلطات المحلية من تحقيق أي اختراق لاستعادة الأمن في الوادي. وتتذرع السلطات وعلى لسان أكثر من مسؤول، بأن الملف الأمني يتطلب توفير إمكانيات كبيرة وتدخّلاً مباشراً من الحكومة والتحالف السعودي-الإماراتي، لكن هذا الأخير لا يزال موقفه من الوضع في وادي حضرموت مثيراً للجدل، ففي حين يدعم ساحل حضرموت الخاضع عملياً للنفوذ الإماراتي بمئات العربات العسكرية وساهم في ترميم عدد من مراكز الأمن، إلا أنه تجاهل وادي حضرموت، على الرغم من الوعود المتكررة بتحسين المنظومة الأمنية، بحسب ما أعلن عضو مجلس الشورى ورئيس مرجعية قبائل وادي حضرموت الشيخ عبدالله الكثيري، الذي قال في تصريح قبل أيام: "إننا تلقينا وعوداً من الجهات العليا في الدولة والتحالف، لتفعيل ودعم الأمن بالوادي والصحراء، إلا أن شيئاً منها لم ينفذ".
وكان وكيل وادي حضرموت عصام الكثيري، أعلن في أكتوبر/تشرين الأول الماضي، تعليق عمله لمدة شهر احتجاجاً على الوضع الأمني والخدمي في الوادي، مطالباً الحكومة والتحالف بتحمّل مسؤولياتهما. وقال الكثيري في كلمة أمام جموع من الطلاب في جامعة سيئون: "إذا كانت الحكومة والتحالف يعتقدان أنني سبب المشكلة، فأنا أقدّم استقالتي".
وبينما يخضع وادي حضرموت عملياً للنفوذ السعودي بحكم التقارب الجغرافي والحدود المشتركة، لكنه لا يزال بعيداً عن اهتمامات الرياض على ما يبدو، إلا من خطوات محدودة تتمثّل في تدريب كتيبة مجندين جديدة تابعة لقوات المنطقة العسكرية الأولى في مدينة سيئون، ووجود عدد من العربات العسكرية.
يقول المدير العام لمديرية شبام عبدالوهاب بن علي جابر، في حديث لـ"العربي الجديد"، إن ما يجري في المديرية يعود إلى ظروف الحرب والأوضاع السياسية التي تعيشها البلاد، والتي انعكست على الوضع في المديرية والمحافظات المحررة عموماً. ويلفت إلى أن عدم اكتمال المنظومة الأمنية بشكلها المؤسسي المعروف، وعدم وجود إمكانيات كافية لجهاز الشرطة، أدّيا إلى اختلالات أمنية، وصعّبا من قدرة السلطة المحلية على القيام بدورها. ويضيف أن السلطة المحلية في المديرية خاطبت السلطة المحلية في وادي حضرموت وقيادة المحافظة والمنطقة العسكرية الأولى بهدف تفعيل جهاز الشرطة، آملاً منهم تعزيز الأمن خلال الفترة المقبلة.
وعن دور السلطة المحلية لحماية المدينة التاريخية وتفعيل السياحة الداخلية، يوضح أن دورها في ظل الأزمة الراهنة يقتصر على تفعيل دور منظمات المجتمع المدني والتواصل المستمر مع الجهات المحلية والدولية التي تهتم بالمدن التاريخية، والترويج للمدينة وموروثها الثقافي في المناسبات الوطنية والدينية، وذلك لتفعيل السياحة الداخلية في المدينة.
وألقت الحرب في اليمن بظلالها على المدن والآثار التاريخية، مهددة شواهد واحدة من أقدم الحضارات في شبه الجزيرة العربية؛ فبحسب منظمة مواطنة لحقوق الإنسان، تناوبت أطراف الصراع على تدمير عدد كبير من الأعيان الثقافية، سواء باستخدامها لأغراض عسكرية أو باستهدافها وإلحاق أضرار متفاوتة بها. ووفقاً للمنظّمة، فقد تعرض ما لا يقل عن 34 موقعاً أثرياً، لأنواع مختلفة من الاعتداءات، كالقصف الجوي، والهجمات البرية، التفجير، أو الاستخدام المتعمد لها لأغراض عسكرية مباشرة.
قتل النشاط السياحي
تقع مديرية شبام وسط وادي حضرموت شرقي اليمن، وتحتضن بين جنباتها مدينة تاريخية مبنية من الطين تضم 500 منزل، لا تزال صامدة منذ أكثر من 600 عام. وبنيت منازل مدينة شبام أو ما يطلق عليها البعض بـ"مانهاتن الصحراء" بطريقة متعاضدة، بحيث يلتصق كل منزل بالآخر من الأسفل ومن دون أساسات في عمق الأرض، ويصل ارتفاعها إلى ما بين 6 و8 طوابق، وتحاط المدينة بسور مبني من الطين تتخلله بوابتان، واحدة منها لا تزال قائمة حتى اليوم، وتمثل المدخل الرئيس للمدينة.
وشكّلت المدينة التي ضمتها "اليونسكو" إلى قائمة التراث العالمي عام 1982، على مدى عقود من الزمن، قبلة للسائحين من داخل اليمن وخارجه، وظل مشهد الوفود الأجنبية التي تجوب المدينة وتبحث في أسرارها، السمة الأبرز للحياة اليومية في المدينة.
لكن الحوادث الأمنية التي بدأت شرارتها في مارس/آذار من العام 2009 بتفجير استهدف وفداً سياحياً من كوريا الجنوبية أسفر عن مقتل أربعة منهم بالقرب من المدينة الأثرية، وتصاعُد الانفلات الأمني خلال الأعوام اللاحقة، قتل النشاط السياحي في المدينة، وغابت معه أفواج الزائرين، ليحل محلهم "قتلة متجولون" يتصيدون ضحاياهم في وضح النهار، في مشهد لا يكاد يتوقف وسط ذهول المواطنين.
يقول الناشط المجتمعي والمهتم بشؤون المدينة التاريخية، عبدالرحمن جبر، في حديث لـ"العربي الجديد"، إن المدينة أصيبت بركود سياحي بنسبة 90 في المائة بعد تفجير 2009 الذي استهدف السياح الكوريين، فيما اقتصرت خلال السنوات اللاحقة على السياحة الفردية وبعض الوفود العربية وتحديداً من دول الخليج، وغالباً ما تكون هذه الوفود في مهمات بحثية.
ويشير جبر إلى أنه ومن عام 2011 وبسبب الانفلات الأمني المتصاعد في المديرية، شُلَت الحركة السياحية بشكل شبه كلي، فأغلقت المنشآت السياحية والاستراحات أبوابها، وسُرح موظفوها، ما تسبّب في ارتفاع نسبة البطالة.
على مقربة من بوابة المدينة الرئيسية، ينتصب محل أحمد محمد ناصر لبيع التحف التراثية، تعتليه لوحة تعريفية باللغة الإنكليزية، فيما تبدو بوابته الأثرية مغطاة بالأتربة وآثار الأمطار، فالسنوات الأخيرة الصعبة دفعت الكثيرين من أرباب هذه المحلات، إلى التخلي عن مهنهم والبحث عن مصدر رزق آخر، في بلد يشكو انهياراً اقتصادياً غير مسبوق.
يقول ناصر، ذو الخمسين عاماً، إنه كان يجني من بيع التحف الأثرية للسياح الأجانب، ما بين 500 و800 دولار شهرياً، لكن تراجع السياحة أجبره على إغلاق محله منذ قرابة 7 سنوات.
ويشير ناصر، الذي انتقل للعمل في محل لبيع العسل، في حديثه لـ"العربي الجديد"، إلى أن ما يتقاضاه من عمله الجديد لا يلبي الاحتياجات المعيشية بعد تراجع سعر صرف الريال اليمني، ويضيف متحسراً: "كانت المدينة منتعشة، الكل يعمل، أرباب سيارات الأجرة، البوفيات، ومحلات التحف الأثرية، ولكن للأسف الآن كثير من هؤلاء أصبح بلا عمل". وعن سر احتفاظه بمقتنياته الأثرية، يقول إنه يأمل أن يتحسن الوضع وتعود المدينة إلى سابق عهدها.
في جولة قصيرة في أزقة المدينة، يتضح للزائر حجم التراجع الذي أصابها، فمراكز وبيوت التراث التي كانت تتزاحم الوفود لزيارتها طاولها الإهمال، فيما لا يزال المتحف الأثري يحظى بزيارات يتيمة، من طلاب مدارس أو مواطنين عابرين. وإجمالاً تبدو ملامح المدينة في حالة "حنين" إلى أيام الزخم السياحي لاستعادة شيء من بريقها، في ظل تراكم الملفات الشائكة، التي تتطلب تدخلاً من أعلى المستويات في الدولة.
يقول رئيس جمعية تطوير الحرف التراثية في مدينة شبام، عوض عفيف، في حديث لـ"العربي الجديد"، إن أكثر من 20 محلاً من أصل 30 لبيع التحف التراثية والحياكة والغزل، أغلقت بسبب الوضع الذي تمر به المدينة. ويشير عفيف إلى أن متوسط دخل المحل الواحد قبل الأزمة كان يصل إلى 500 دولار، في حين لا يتجاوز دخل ما تبقى منها الآن 20 ألف ريال يمني (40 دولاراً).
ويلفت عفيف إلى أن معظم أصحاب محلات ومراكز التحف الأثرية المغلقة، اتجهوا للعمل في البناء وغيره، أو اضطروا للاغتراب بحثاً عن الرزق، فيما لا يزال عدد منهم يعاني البطالة، مناشداً الجهات المختصة العمل ولو بالحد الأدنى لاستعادة مكانة المدينة ونشاطها السياحي من خلال تنظيم مهرجان أو أسبوع تراثي لتنشيط السياحة الداخلية، وتسهيل تسويق المنتجات الحرفية من خلال إقامة معارض على مستوى المحافظة أو تسويقها خارجياً بالتعاون مع منظمات مختصة.
ولا تقتصر معاناة المدينة على الانفلات الأمني وتراجع السياحة فقط، بل تشمل خطر الانهيار أيضاً، فقد كشف تحقيق لـ"العربي الجديد" في ديسمبر/كانون الأول 2015 عن انهيار 40 منزلاً أثرياً انهياراً كلياً، و110 انهياراً جزئياً، الأمر الذي دفع لجنة التراث العالمي لـ"اليونسكو"، إلى إدراج المدينة وسورها في يوليو/تموز 2015، في قائمة التراث العالمي المهدد بالخطر.
العربي الجديد