"أربعة أعوام بالتمام والكمال منذ آخر مرة رأيت فيها والدتي، أقصى ما أتمناه أن أجد نفسي في قريتي الريفية، أحيانا أشعر بأسى وحزن وضياع، وأفكر في مغادرة إسطنبول والعودة مع أطفالي لزيارة اليمن، والتخفيف من الغربة، ولكن التكلفة الاقتصادية الباهظة تجعلني عاجزاً وحائراً". بهذا رد اليمني فتحي الرياشي عندما سألته الجزيرة نت عن أبرز الأسباب التي تعيق عودته لوطنه.
يحتاج فتحي بحسب حديثه للجزيرة نت إلى 5300 دولار أميركي على أقل تقدير مقابل شراء تذاكر الطيران له وزوجته وأطفاله الثلاثة من إسطنبول إلى السودان، ثم إلى اليمن–ذهاباً وإياباً- حيث لا توجد أي رحلات طيران دولية مباشرة من وإلى اليمن منذ بداية الحرب، ويقتصر عبور اليمنيين عبر الرحلات المتوفرة من وإلى الخرطوم والقاهرة والأردن فقط.
المخاوف التي دفعت فتحي لمغادرة اليمن عند بداية الحرب في اليمن لم تعد تقلقه الآن، فهو يعمل حالياً في إحدى الشركات الخاصة ببيع وشراء العقارات، ولكن راتبه لا يكفي لتغطية التزاماته في إسطنبول، والتي قال إنها "مدينة تتطلب أن يكون المرء أمام الصراف الآلي طوال الوقت بسبب غلاء المعيشة وتكاليف رسوم دراسة أطفاله في مدرسة خاصة".
شتات أكبر
قصة فتحي نموذج بسيط لمئات الآلاف من اليمنيين في دول المهجر والاغتراب الذين ضاعفت الحرب شتاتهم، ووجدوا أنفسهم عالقين بين صعوبات البقاء في الخارج أو مرارة العودة إلى وطنهم، بما قد يتطلبه الأمر من تكاليف باهظة ومخاطرة بأرواحهم أحياناً، وفقاً لروايات بعض الذين تحدثوا للجزيرة نت.
خليل العمري صحفي يمني غادر اليمن إلى ماليزيا، يقول إنه أصبح الآن أمام خيارين؛ كل واحد أمرٌّ من الآخر: الأول هو البقاء في كوالالمبور رغم تكاليف الحياة الباهظة وارتفاع أسعار الإيجارات والمعيشة، أو المخاطرة والعودة للوطن في ظل الوضع الأمني المضطرب.
يؤكد العمري للجزيرة نت أنه كان يوجد الكثير من اليمنيين في ماليزيا منذ بداية الحرب، وتقدر أعدادهم بنحو ثلاثين ألف شخص، لكن أغلبهم لم يصمدوا طويلاً بسبب تكاليف الإقامة والسكن والتعليم، وقرر الأغلبية منهم العودة إلى اليمن بصعوبة.
لقد كان الأمل كبيرا خلال الفترات الماضية في حدوث انفراجة وانتهاء الحرب، ولكن هذا الإحساس -بحسب العمري- تراجع مع دخول الحرب عامها الخامس، وأخطر ما يمكن قتله في روح اليمني المهاجر هو الأمل.
وبالطبع، فإن معاناة الطلاب اليمنيين المبتعثين للدراسة في الخارج أو الطلاب الذين يدرسون على نفقتهم لا تنفصل عن معاناة المغتربين اليمنيين، حيث أصبحت الغربة خيارهم الإجباري والوحيد.
أكمل الطالب اليمني عماد أحمد دراسته الجامعية منذ أكثر من عام في إسطنبول، وبحسب حديثه للجزيرة نت فإنه منذ ستة أعوام لا يستطيع العودة إلى اليمن لزيارة أقاربه وأسرته، وذلك بسبب عدم امتلاكه تكاليف العودة خلال الدراسة (ألف دولار أميركي)، وتمكن مؤخراً من الحصول على عمل في إحدى المنظمات المجتمعية براتب شهري زهيد لا يتجاوز ثلاثمئة دولار، رغم أن تخصصه الدراسي هو الهندسة.
أعداد المغتربين
اليمنيون في الخارج ينقسمون إلى قسمين: الأول منهم قد فقد الهوية، ولم يعد حتى يتكلم العربية، وأغلبهم في شرق آسيا، وتقدر أعدادهم بأربعة ملايين نسمة، وفقاً لتصريح رئيس الجاليات اليمنية حول العالم مقبول الرافعي للجزيرة نت.
أما القسم الثاني -كما يفيد الرافعي- فهو القسم الذي ما زال متصلا بالوطن، سواء في شرق آسيا أو الخليج العربي وأوروبا وأميركا وأفريقيا، وهؤلاء تقدر أعدادهم بستة ملايين مغترب، وهم الركيزة الأساسية للاقتصاد الوطني على مدى السنوات الماضية، رغم أنه يتم التعامل معهم بإهمال من قبل الحكومات اليمنية المتعاقبة.
في المقابل، قالت مصادر في وزارة المغتربين بالحكومة اليمنية للجزيرة نت إن أعداد اليمنيين في الخارج تتجاوز أكثر من سبعة ملايين يمني، ويمثلون ما نسبته أكثر من 32% من إجمالي السكان، حيث تضاعفت الأرقام خلال سنوات الحرب الأخيرة، وفقاً للمصدر.
ولم تنتج الأزمة اليمنية لاجئين بقدر ما أفرزت مهاجرين وفارين من الحرب، فأغلب اليمنيين في الخارج ليسوا لاجئين، وإنما هم تجار وعمال ودارسون، بحسب حديث المصدر ذاته.
ويرى الباحث اليمني في بريطانيا إبراهيم جلال أن المغترب اليمني في الخارج أصبح يقف بين المعاناة النفسية للاغتراب القسري، ورغبة العودة المكلفة سياسياً وثقافياً وأمنياً.
فالعاصمة صنعاء -على سبيل المثال- لم تعد صنعاء التي يعرفها اليمنيون، خاصة أنها المدينة التي احتوت ذات يوم جميع اليمنيين بمختلف توجهاتهم الفكرية والسياسية والدينية، كما يقول جلال للجزيرة نت.
وحتى الدول العربية والأجنبية أصبحت تنظر اليوم إلي المواطن اليمني من منظور الأزمة الضيق، بعيداً عن السبب الذي أغترب لأجله، وهو التعليم أو العمل، وفقاً لحديث إبراهيم جلال.