نحن في حضرة لغز بلقيس أو بلقمة مليكة هذه البلاد. نطوّف في أرجاء مأرب 173كيلو متراً شمال شرقي صنعاء، هنا نتحسس بعض الآلام جراء الحرب التي شهدتها وما زالت مستعرة في بعضها. هنا صرواح، الفُص الذي يتوسط تاج مأرب التاريخي، والتي ما زالت ساحةً لجبهة حرب ملتهبة في محافظة صار معظمها مستقراً؛ لكن كشف حساب الخسائر ثقافياً، كان باهضاً.
هنا مركز محافظة مأرب (تبلغ مساحة المحافظة 17405كم2 تتوزع في 14 مديرية) التي باتت اليوم واحدة من أشهر الوجهات اليمنية ومركزاً من مراكز صناعة القرار في هذا البلد المكلوم، وفي ذات الوقت ما زالت تحتضن بؤرة من بؤر النزاع المسلح، حيث يوجد أكبر معسكرات التحالف العربي بقيادة السعودية على بعد من مديرية صرواح التي ما زالت تحت سلطة المسلحين الحوثيين.
في مديرية صرواح ما زالت طبول المعارك مسموعة بين طرفي الصراع، ونزيف دم اليمن يتدفق فوق الرمال التي تربض في بطنها وتنتصب على سطحها مآثر الأجداد من صُنّاع حضارة سبأ.
على الرغم من الاستقرار النسبي الذي تعيشه المحافظة إلا أنها قد شهدت وتشهد بعض الغارات الجوية والمعارك على الأرض؛ وإن انحسرت معظم تلك المعارك في صرواح؛ إلا أن الغارات والمعارك في الفترة الماضية والراهنة وشراء الإماراتيين والسعوديين للآثار قد تسبب بخسائرٍ كبيرةٍ في التراث الثقافي المادي لليمن والإنسانية هناك.
يقول رئيس الهيئة اليمنية للآثار والمتاحف مهند السياني لـ «القدس العربي» إن الوضع في هذه المحافظة مستقر حالياً، بينما معظم تلك الخسائر كانت في الفترة الأولى من الحرب جراء غارات مقاتلات التحالف التي استهدفت ثلاث مُدن أثرية هي: صرواح، براقش، ومأرب القديمة، ومعبدي أوعال (ألمقه) ونكراح، وقلعة حريب بيحان مأرب، بالإضافة إلى أكبر تلك الخسائر؛ وهي المصرف الشمالي لسد مأرب القديم والذي دمرت الغارات الجوية للتحالف معظمه.
وكانت محافظة مأرب من أوائل أهداف غارات مقاتلات التحالف قبل تحريرها؛ فعقب شهر من إطلاق التحالف «عاصفة الحزم» استهدفت مقاتلات التحالف مدينة صرواح الأثرية في 24 نيسان/أبريل 2015. وحسب التقديرات الرسمية لهيئة الآثار فإن الغارات دمرت 30 في المئة من المدينة الأثرية الهامة التي يعود تاريخها لمنتصف القرن السابع قبل الميلاد؛ وتعد من عواصم مملكة سبأ، وتحتضن معبد أوعال «ألمقه» والقصر، وقد بناها الملك السبأي «يدع ال ذريح».
بالتزامن مع استهداف مدينة صرواح بدأت مقاتلات التحالف باستهداف مدينة براقش الأثرية. وحسب التقديرات الرسمية فقد دمرت الغارات 40 في المئة من معالم المدينة الأثرية التي عُرفت في النقوش باسم «يثل» وكان يحيط بها سور وداخلها معالم أثرية أهمها «معبد نكراح».
عقب خمسة أيام من استهداف مدينتي صرواح وبراقش الأثريتين، وكانت الغارات الجوية للتحالف في 31 أيار/مايو 2015 على موعدٍ مع استهداف أهم معالم مأرب؛ إنه سد مأرب القديم؛ الذي يُعدّ أحد أهم المعالم الحضارية اليمنية على مستوى المنطقة والعالم. لقد استهدفت الغارات مصرفه الشمالي، ودمرت 70 في المئة منه متسببة بخسارة ثقافية كارثية.
ويعتبر سد مأرب الأثري من أقدم السدود في الجزيرة العربية التي تعود إلى الألفية الرابعة ق.م وقد ظل صامداً حتى سنة 575ميلادية. وحسب رئيس الهيئة اليمنية للآثار؛ فإن خبراء اليونسكو في أحد المؤتمرات استنكروا بشدة استهداف التحالف لهذه المعالم؛ حيث قالوا إن جغرافية وتضاريس موقع السد القديم لا تسمح باستخدامه لإخفاء أسلحة أو لإيواء أي ميليشيات بأي شكل من الأشكال.
بعد أسبوعين من استهداف السد وبتاريخ 13 حزيران/يونيو 2015 استهدفت مقاتلات التحالف مدينة مأرب القديمة؛ ودمرت الغارات ما نسبته 10 في المئة من معالمها. ومأرب القديمة مدينة أثرية كانت عاصمة الدولة السبأية الممتدة من 1200 ق.م وحتى 275م، وبها أشهر معلم أثري يعرف باسم مسجد النبي سليمان.
كانت مدينتا صرواح وبراقش على موعد ثان من الغارات، حيث استهدفت مقاتلات التحالف في 16 كانون الثاني/يناير 2016 معبد أوعال صرواح في مدينة صرواح الأثرية، والذي يعود تاريخه للألف الأول قبل الميلاد ودمرت الغارات ما نسبته 50 في المئة من هذا المعبد الأثري القديم، وفيه «نقش النصر» الذي يعود تاريخه إلى القرن السابع ق.م، وتعرض النقش لبعض الأضرار؛ ويعد هذا النقش من أهم نقوش تاريخ اليمن القديم. كما استهدفت مقاتلات التحالف بتاريخ 6أذار/مارس 2016 «معبد نكراح» في مدينة براقش الأثرية الذي يعود تاريخه للقرن الرابع قبل الميلاد ودمرت الغارات ما نسبته 70 في المئة من معالمه.
في اليوم التالي استهدفت مقاتلات التحالف قلعة حريب في بيحان مأرب، ودمرت 70 في المئة من تلك القلعة الأثرية. كان ذلك ما يتعلق بغارات مقاتلات التحالف؛ فيما تسببت المواجهات والمعارك والتي التهبت وما زالت ملتهبة بين طرفي الصراع على الأرض بكثير من الأضرار، وخاصة في مديرية صرواح، إذ استخدمت بعض المواقع الأثرية كمتارس عسكرية، ودارت بعض المعارك في محيط عديد منها.
ويؤكد الأخصائي في الآثار في الهيئة العامة للآثار خالد الحاج لـ «القدس العربي» أن المعارك التي دارت في محيط صرواح أثرت كثيراً على معالم المدينة، كما أن الإماراتيين والسعوديين يعملوا على تشجيع المواطنين على نبش الآثار وبيعها في مأرب؛ كونهم مَن يشتريها ويبيعونها في مزادات عالمية عبر شبكة الانترنت، ونحتفظ بروابط مواقع تلك المزادات.
المصدر: القدس العربي